عبد الناصر في حناجر الشعراء وقلوبهم
د. صابر فلحوط
لايمكن الحديث عن الوقائع العظيمة، التي رصعت بصماتها جبهات الخلود، دون مقارنتها بما سبقها، ورافقها وجاء بعدها من الأحداث على سلم الزمن.. من هنا، فإن مئوية الزعيم الخالد جمال عبد الناصر التي تحل هذه الأيام تكتسب أهميتها وعظمتها وتأثيرها عبر تداول الحال والمآل في مصر أولاً، والأمة العربية ثانياً، والإقليم والعالم الثالث أخيراً.. فقد أدرك الضابط جمال عبد الناصر في الفلوجة- مقاتلاً من أجل فلسطين قضية العرب المركزية- فظاعة ماارتكبه الحكام العرب، وفي مقدمتهم الملكية في مصر، من جرائم بحق الأمة العربية طعنتها في صميم كرامتها وقيمها، بدءاً بصفقات الأسلحة الفاسدة التي تطلق- للخلف- وليس انتهاء ببواخر السلاح المستورد للمقاتل العربي، فتتحول وجهته بفعل التآمر المكشوف إلى الكيان الصهيوني!! لهذا كانت ثورة الضباط الأحرار في مصر بقيادة جمال عبد الناصر عام 1952 تاريخاً جديداً عبر محطات بارزة وباهرة أولاها التوجه- شرقاً- لشراء السلاح من الدول الاشتراكية وإزالة الالتباس بهوية- الثورة- ويساريتها وعمقها الأيديولوجي والاشتراكي والثانية تأمين قناة السويس، الحدث الذي هزّ كيان الاستعمار الأوروبي- الحليف والداعم للعدو الصهيوني- والمؤسس لاستقلال الاقتصاد المصري والثالثة إبداع السد العالي بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي الصديق الموثوق والداعم لمسيرة التحرر العربي، والرابعة قيام الجمهورية العربية المتحدة التي مثلت أرفع إنجازات الأمة وأعظمها في القرن العشرين، والتي جاءت نتاج التلاقي والتلاقح الموضوعي بين حزب البعث العربي الاشتراكي والزعيم القومي جمال عبد الناصر الذي كان عنوان تطلع أجيال الأمة، وصبوتها للانعتاق والولادة الجديدة لأمة عربية (تحمي ولا تهدد، تصون ولا تبدد، تشد أزر الصديق، ترد كيد العدو تنشد السلام لها، ولغيرها وللبشر جميعاً).
لقد بهر الزعيم أقلام الكتاب والشعراء غداة تألق في مواجهة العدوان الثلاثي (الصهيوني، البريطاني، الفرنسي) بعد تأميم قناة السويس وتصدره حركة عدم الانحياز مع العمالقة (تيتو- نهرو- شوون لاين- وسوكارنو)..
وقد واجه -الزعيم- محاولات الاغتيال العديدة التي دبرها محور الشر- (العدو الصهيوني- والإخوان المسلمون- والرجعية العربية النفطية بقيادة السعودية) ولعل الأجيال المعاصرة لذلك الزمن الحرون تذكر مقولته التي واجه بها الرجعية النفطية: (إن جزمة جندي عربي واحد تشرف تيجان ملوك النفط الذين أثروا على حساب دماء شعبنا بعد نكسة عام 1967 التي جاءت حصاد تآمرهم مع الصهيونية الغادرة والاستعمار البغيض).
وقد بلغ إعجاب جمهرة من الشعراء العرب بـ -الزعيم الخالد- أن حلقوا به ومعه إلى مستويات خيالية وصلت حد -النبوة- فها هو الشاعر الكبير نزار قباني يقول راثياً وباكياً: (قتلناك يا آخر الأنبياء)؟!.
كما ينبري شاعر البعث الأكبر سليمان العيسى فيقول إعجاباً -بالزعيم-:
سمراء صحرائي ونسري أسمرُ
ورسالتي ورق الخلود الأخضر
ويواجه أستاذنا -أبو معن- المشككين بعظمة الأمة العربية وقدرتها على تجاوز محنتها وامتحاناتها وقد امتشق -فارس- من أبنائها رايتها ليعيد حضارتها ويجدد رسالتها فيقول:
عجب إذن أن تستفيق حضارة
ويجدد الدنيا نبي أسمرُ
أما آمال جيل -شاعرنا العيسى- وطموحاته فقد جسدها بقوله الخالد:
من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر
رايات عبد الناصر
يوم أمشي في الأطلسي يميني دون
حدٍ وفي الخليج شمالي
وقد كان من الميزات الباهرة -للزعيم- أنه لا يتسامح -حتى مع الأصدقاء- حين تصل الأمور إلى حدود المس بالثوابت.. فها هو يرد على الذين حاولوا تجيير انتصار مصر على العدوان الثلاثي عبر الادعاء: (إنه لولا صواريخ الاتحاد السوفييتي التي هدد بها وزير الدفاع -بولغانين- دول العدوان- لخسرت مصر الحرب) فيقول: (إيه فعلت صواريخ -بولغانين- نحن الذين حررنا بلدنا وانتصرنا بدماء أبنائنا)
وهنا يسجل هذه الواقعة التاريخية -أستاذنا العيسى- بقوله:
يا رائد السلم -يا خروتشوف- معذرةً
إن يكفر الناس بالسلم الذي خبروا
على دهائك لا يخفى لو أنهم
صمّ وبكمٌ وعميان لما كفروا
أما الشاعر الأكبر محمد مهدي الجواهري فقد رافق الزعيم منذ الاحتفال الأول بتكريم الشهيد العقيد عدنان المالكي 1957 وقبل الوحدة السورية المصرية برئاسة الزعيم، حيث قال في المهرجان الذي أقيم في الملعب البلدي بدمشق:
دار الزمانُ، فليس الشرقُ مزرعةً
فيها غلالٌ وألبانٌ وأبقارُ
وراح يحفر قبر الغرب حفار
ويستجدُ له التابوت نجارُ
والحقُ مطرقة يلوى القويُ بها
وكلُ شعبٍ سليب الحق مسمارُ
ثم يبشر الدنيا بولادة -الزعيم- قائلاً:
تنفس الصبح عن مصرية ولها
في المهر شبل قبيل الزأر زآر
اسلم جمال لنا نسلم فقد عرفت
بك الكرامة في الشرقين أمصار
يا دافع الخطر الموفي بكلكله
على العروبة لامستك أخطار
ولعل قصيدة الجواهري في وداع -الزعيم- والتي نشرتها جريدة الأهرام مرتين- خروجاً على المألوف- تقديراً وإعجاباً فيمكن أن تلخص رأي الشاعر الكبير بمسيرة -الزعيم- حيث يقول:
أكبرت يومك أن يكون رثاء
الخالدون عهدتهم أحياء
أو يرزقون؟! أجل وهذا رزقهم
صنو الخلود وجاهة وعطاء
ويأخذ الشاعر- على الزعيم- استعجاله في حرق المراحل وصولاً إلى النصر المنشود فيقول:
يأيها النسر المحلق يتقي
فيما يروم عواصفاً هوجاءَ
ينقضّ عجلاناً فيفلت صيده
ويعيده لو أحسن الإبطاء
وفي الوقت نفسه يرد على منتقدي -الزعيم- عندما يبالغون في تعظيم أخطائه قائلاً:
لايعصم المجد الرجال وإنما
كان العظم المجد والأخطاءَ
لم يخل غاب لم يحاسب عنده
أسد بما يأتي صباح مساءَ
تحصى عليه العاثرات وحسبه
مافات من وثباته إحصاءَ
وقد رأي الجواهري بـ -الزعيم- قائداً اشتراكياً، بل مبدعاً لنظرية الطبقة الواحدة في الشعب الواحد من أجل الكفاية والعدل في المجتمع، حيث يخاطب الزعيم:
قالوا أب بر فكانت أمة
ألفاً ووحدك كنت فيها الباء
وبرمت بالطبقات يحلب بعضها
بعضاً كما حلب الرعاة الشاءَ
ووددت لو لم تعترف شربهما
لا الأغنياء بها ولا الفقراء
قد كان حولك ألف جار يبتغي
هدماً ووحدك من يريد بناء
وهنا تقتضي الأمانة أن نستذكر صدق الجواهري في حالتيه المدح والقدح الذي يصيب فيهما كبد الحقيقة فقد سبق له أن خاطب زمرة نوري السعيد في العراق ومكة – فيصل- الخادم الأمين لبريطانيا قالاً:
لنا ملك تأبى عصابة رأسه
لها غير كفّ -التايمزيين- عاصبا
وليس له من أمره غير أنه
يعدد أياماً ويقبض راتبا
أما حكمة -الزعيم- وصبره وشجاعته فيرسمها الجواهري في أجمل صورة وأشف تعبير حيث يقول:
لله صدرك ماأشدّ ضلوعه
في شدةٍ، وأرقهن رخاء
تلج السياسة في تناقض حالها
فتطابق العزمات والآراء
وكان لسد أسوان نصيبه من ثناء الجواهري على الحدث وصانعه الذي كذب السحرة والمنجمين وأبدع الإنجاز
ورأيت في -أسوان- قدرة ساحرٍ
يسعى ليوسع ميتاً إحياء
وبعثته حياً ودست مشككاً
وصفعت همازاً به مشاء
أما خطبة -الزعيم- في تأميم قناة السويس وهزيمة العدوان الثلاثي فيشخصها- الجواهري بأبهى حلة قائلاً:
ولففت رأس الأفعوان بذيله
وقصعته وخطبتها بتراء
وصنعت معجزة -القناة- ورعتهم
وسقيتهم حمم الجحيم الماء
وقد كان لمهابة -الزعيم- وتعلق الجماهير في التاريخ القومي به الحصة الوفيرة من شعر الجواهري وإبداعه حيث يقول:
وهصرت طاقات الجموع ورزتها
فوجدتها ولادةً عسراء
فإذا نطقت ملكت مهجة سامعٍ
وخشوعها والسمع والإصغاء
وإذا سكت أشاع صمتك رهبة
حتى تخال كتيبة خرساء
أما الشاعر القروي -رشيد سليم الخوري- الناسك المتبتل في محراب العروبة والذي عاد للوطن بعد غياب نصف قرن في المهجر ليخاطب الوحدة وزعيمها من فوق منبر جامعة دمشق عام 1959 فيقول مفنداً مزاعم وتخرصات المشككين بعروبة مصر ومشيداً -بالزعيم-.
حتام تحسبها أضغاث أحلام
سبح لربك وانحر أنت في الشام
أنا العروبة لي في كل مملكة
إنجيل حب ولي قرآن إنعام
ما ازهوهر الغرب إلا تحت أقدامي
واخضوضر الشرف إلا تحت أعلامي
بناصري وبأسواني فخرت إذا
باهى الدعي بفرعون وأهرامي
ماأقرب الوحدة الكبرى منجزة
أحلام كل شعوبي وقسام
وقد قدر لي وقد اختارني طلاب جامعة دمشق عام 1959 مندوباً عنهم في اتحاد طلاب الجامعات في الجمهورية العربية المتحدة، أن أكون عريف الاحتفال الثقافي الفني في جامعة القاهرة في نيسان 59 بحضور – الزعيم- وأركان الدولة يومها، وقد دعينا في نهاية المهرجان لحفل تكريمي في نادي الجزيرة بالقاهرة، حيث تم فيه تقديم ممثلي طلاب جامعات الجمهورية- للزعيم- الذي وقف إلى جانبه كمال الدين حسين وزير التربية المركزي وأركان الدولة وعندما جاء دوري لمصافحة الزعيم قدمت نفسي قائلاً:
أنا صوت الجبل رعاد يهزّ الكون هادر
أنا نور البعث هناك حجابات الدياجر
أنا شعب يعربي الفجر رعاف البواتر
أنا إعصار عظيم الهول من ثورة ناصر
ومازلت اعتز وافتخر بتلك اللحظة الفارقة التي ساقني إليها القدر قبل حوالي ستين عاماً..
صحيح أن المؤرخين وعلماء الاجتماع ينكرون وجود لفظة -لو- غير أنني مؤمن حتى آخر حدود النبض أنه – لو- قدر للزعيم أن يتأخر رحيله سنوات عشر بعد العام 1970 ليلتقي الزعيم المؤسس حافظ الأسد في ساحة النضال الواحد ليرينا العالم اليوم يقرأ التاريخ العربي عبر وقائع ومواقف تتمثل بتحقيق الحلم الأعظم والإنجازات القومية الأكبر في الدار العربية من محيطها الذي كان هادراً إلى خليجها الذي كان ثائراً فكلا الزعيمين صعد إلى رفرف الخلود حاملاً الوسام الأرفع المتمثل بـ (إنه لم يطبع ولم يوقع)!! كما لو كان كلا الزعيمين يحمل الصفة الأرفع، وهي الشهادة التي عناها الجواهري بقوله:
ياأيها البطل الشهيد أمضّه
شوق فزار رفاقه الشهداء
نم آمناً ستمدّ روحك حرة
وسط الكفاح رفاقك الأمناء