سقوط الأوهام
في ردود الفعل العربية على إسقاط الطائرة الصهيونية في فلسطين المحتلة، يظهر التناقض على أشدّه بين القوى الرجعية العربية الموظفة في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني، وبين الجماهير العربية على امتداد الجغرافيا القومية. وليس هذا التناقض جديد النشأة، فهو قديم قدم عروش الملْك وكراسي الحكم التي فصّلها الاستعمار على هواه، ونصّب عليها أعتى العملاء. لكنه لم يكن في يوم من الأيام على هذا القدر الساطع من الوضوح، ولم يكن جهر الرجعية بالخيانة، والتفاخر بها أمراً ممكناً، رغم أنه كان يحدث في الخفاء، وكانت روائحه تزكم الأنوف أحياناً.
وبداية من احتلال العراق عام 2003، مروراً بمحاولة إخضاع القرار السياسي العربي السوري، فحرب تموز للقضاء على المقاومة اللبنانية والإعلان الأمريكي عن الشرق الأوسط الجديد، وصولاً إلى ماسُمي «الربيع العربي» الذي أطلقه أعداء الأمة، وأدواتهم في الداخل، وسخّروا له أكبر الحروب النفسية والحملات الإعلامية التضليلية التي عرفها التاريخ لتحقيق ماعجزوا عن تحقيقه، أسقطت الرجعية العربية ورقة التوت، وجعلت من عمالتها لأمريكا والكيان الصهيوني سياسة رسمية مدججة بترسانة ثقافية وإعلامية هائلة لتقديم مايلزم من مبررات سياسية وعقائدية كاذبة ومزيفة للمواطن العربي.
إسقاط الدفاعات الجوية السورية الطائرة الصهيونية نسَف جملة الأكاذيب الأساسية التي قامت عليها الاستراتيجية الرجعية التضليلية، وأولاها أن العدو الرئيس للأمة هو حلف المقاومة ولاسيما سورية وحزب الله وإيران، ومن لف لفهم من قوى معادية للصهيونية، وليس الكيان الصهيوني المحتل. وثانيتهما أن محاربة سورية «إسرائيل» مجرد دعاية، بدليل أنها تكتفي بالبيانات في مواجهة الاعتداءات الصهيونية المتكررة عليها…!
وشكّل إسقاط الطائرة صدمة عنيفة للرجعية التي حاول إعلامها المنحط أن ينال من أهمية الحدث الكبير التاريخية والاستراتيجية، وأن يمتص الآثار الإيجابية التي أحدثها في النفس العربية المحاصرة منذ عقود بالتيئيس والتضليل والتفتين المذهبي والطائفي، وكل ما من شأنه تغيير بوصلتها وأهدافها، وإفقادها القدرة على التجدد والنهوض. لكن ذلك الإعلام المخزي لم يفعل سوى أن زاد من فضح أصحابه، وإظهارهم ملكيين أكثر من الملك، ومتصهينين أكثر من الصهاينة. وأثار حالة قرف شعبي عربي من سلوكهم الشائن.
لم تُسقط الدفاعات السورية الطائرة الصهيونية فحسب، بل أسقطت أوهام الرجعية العربية وأكاذيبها، وأعادت للمواطن العربي مشاعر الفخر والاعتزاز والكرامة والثقة بالنفس وبمشروع الأمة في التحرير والنهوض والتقدم. ولذلك فرح الناس في الأقطار العربية، وهم يرون كيف تحوّل رمز العنجهية الصهيونية الى حطام على أرض فلسطين المحتلة، وتنفّسوا الصعداء واحتفلوا، وتأكدوا، في تلك اللحظة التاريخية، من صحة بوصلتهم، وعمق إيمانهم بقضيتهم. كما أرسلوا رسالة للمشككين والخائبين والمتواطئين والعملاء، مفادها، بكل بساطة، أن الأمة العربية حقيقة، وأن المشاعر القومية لم تغب عن الحياة، وأن لا محرك يحركها كفلسطين قضية الأمة المركزية رغم أنف المتواطئين والمضلّلين والمطبّعين والمستسلمين.
محمد كنايسي