بين الخدَمي والسياسي: المؤتمرات السنوية للشـُعب الحزبية
هناك في الواقع أكثر من وجهة نظر حول استمرار وتزايد طرح المسائل الخدمية في المؤتمرات السنوية للمؤسسات الحزبية: فرقة – شعبة – فرع، ولا شك في وجود تباين في الرأي بين رفاقنا حول رسوخ هذا الطرح، وهو بالتأكيد ليس وليد الظروف التي تمر بها البلاد والأمة منذ 2011.
فقد عرفت اجتماعاتنا ومؤسساتنا الحزبية هذه الثنائية بين الطروحات الخدمية والسياسية منذ عقود عديدة. ولهذه الثنائية المستمرة، والتي تبدو أنها لن تغيب، أسباب عديدة منها أن نضال الحزب السياسي والفكري متصل بنضاله الاجتماعي وبانحيازه التاريخي للجماهير الكادحة ولحقها في الوصول إلى تطلعاتها في تأمين الظروف المناسبة لنهوضها وأخذ دورها في مختلف أشكال التنمية والمسؤولية. فلطالما استقر جدول أعمال الاجتماعات والمؤسسات على تلازم العرض التنظيمي مع العرض السياسي، مع العرض الخدمي «الاقتصادي والاجتماعي» في اجتماعات خلايا الأنصار والعاملين وقيادات ومؤتمرات الفرق والشُعب والفروع الحزبية وصولاً إلى اجتماع اللجنة المركزية.
والحقيقة فإن حزب البعث العربي الاشتراكي وعبر تاريخه النضالي انطلق في الأساس من هذه الثنائية، فبقدر ماكان الوعي السياسي هدفاً من أهدافه فإن المسألة الاجتماعية كانت من همومه وقضاياه.
لكن قراءة واعية لأدبيات الحزب “الدستور – النظام الداخلي – المنطلقات النظرية” تبيّن بوضوح تقدم المسألتين السياسية والتنظيمية على المسألة الاجتماعية والاقتصادية، على الرغم من أن التنظيم الحزبي منذ بداياته كان يسعى إلى الملاءمة والموازنة بين الطرح السياسي والاجتماعي، ولعل هذا من أسباب عمل البعثيين الأوائل للوصول إلى مركز صنع القرار الوطني «السلطة».
وفي الطريق الشائكة إلى السلطة لم يستخدم البعثيون العنف سبيلاً إليها، بل كانت الطريق شبه سلميّة لم تُرق فيها قطرة دم واحدة لأنها ارتبطت بالرغبة الجماهيرية الواسعة، وبالإيمان العميق لأغلب قطاعات الشعب بمشروع البعث السياسي والاجتماعي، وعلى هذا الأساس كان الوصول سلميّاً إلى المادة 8 في الدستور السابق، وكذلك كانت خسارتها.
وإذا كان هناك من تناقضات وتباينات وخلافات عبر السير في هذه الطريق فإنها كانت بين البعثيين أنفسهم، وليس بين الحزب والشعب على نحو مانرى في حركة 23 شباط 1966، وفي الحركة التصحيحية المجيدة في 16 ت2 1970.
في مطلق الأحوال نجح البعث والبعثيون في نيل ثقة الشعب، ولطالما ارتبط سلوك البعثي بالطُهر والنقاء والتضحية والترفّع عن الأمراض الاجتماعية وغيرها، وكان البعث ولايزال وسيبقى أملاً وموئلاً وملاذاً للوطنيين وللعروبيين والأحرار والشرفاء، وإذا كان هناك من خلل أو خطأ أو تقصير فإن هذا يعود إلى عامل فردي وليس مؤسساتياً على الإطلاق.
فأي حزب أو أي حركة تحرر حين الوصول إلى السلطة يواجه تحديات عديدة ومعروفة، منها أن للسلطة مفرزاتها المتنوعة، ولاشك في أن بعضها سلبي، كما أن ضرورة البراغماتية فيها قد تتناقض في كثير من الأحيان مع العقائدية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن غير قليل من الحزبيين حين يصلون أو يوصلهم الحزب إلى السلطة يصبحون أقل من غيرهم التزاماً بمقترحات الحزب وتوصياته وأخلاقياته أيضاً، وهذا ماينبغي معالجته.
في هذا السياق يلاحظ المتابع لطروحات رفاقنا في المؤتمرات السنوية للشعب الحزبية هذا العام ما يشجع، وما يبعث على الأمل والتفاؤل بالبعث وبجماهيره وبكوادره ومؤسساته، وبقدرة هذا الحزب على أن يبقى صامداً بصمود شعبنا الأبي وجيشنا العقائدي «المكوّن المهم للحزب» فنواجه سوية بولائنا ووفائنا للرفيق الأمين القطري للحزب الرئيس بشار الأسد أشرس عدوان عرفه تاريخنا الوطني والقومي استُخدمت فيه أقسى أسلحة الأجيال الأربعة للحروب من السلاح الأبيض إلى وسائل الحرب الخبيثة العصرية ذات التكلفة الصفرية للعدو.
من منّا لايلفت نظره، أو لا تُثار مشاعره وشجونه الوطنية وهو يقرأ أخبار مؤتمر شعبة الحزب في معرة النعمان، والرستن، والقصير، ومدينة الرقة، وحوض الفرات…إلخ، وهو يسمع أيضاً هؤلاء الرفاق الذين لم يبالوا بالتشريد والتهجير وفقدان الأرض والسكن مقابل التمسك بالهوية والانتماء الوطني؟، فعلى سبيل المثال كان شعار مؤتمرات الشعب الحزبية في فرع الرقة:«فليكن عملنا ومنهجنا العمل من أجل الغير، وليس من أجل الذات، كما فعل الشهيد والجريح والجندي المقاتل».
وكيف لنا ألا نُكبر صمود هذا الحزب بكوادره ومؤسساته ونحن نقرأ ونسمع صدى هذا الإيمان العميق والأصيل بالبعث وبطاقاته وقدرته على الحضور الوطني الفاعل سياسياً واجتماعياً وفكرياً.
لكن بالمقابل فإن لاستمرار الإلحاح على الجانب المطلبي وتقدمه في بعض الأحيان على حساب الجانب السياسي والفكري أسباباً تتطلب إعادة القراءة والتحليل.
يبدو من هذه الأسباب ثقة الرفاق بعودة الحياة إلى مؤسسات الدولة الوطنية، وبقدرة هذه المؤسسات على تحقيق جميع المطالب، أو شعورهم بأن هناك تقصيراً لايمكن تبريره، وخللاً ليس صعباً تجاوزه، وبقدرة الرفاق على تقديم مقترحات موضوعية للنهوض بهذا الجانب.
وبالمقابل أيضاً فإن الوقوف أمام الجانب السياسي والفكري ضروري وواجب وله أولوية راهنة، ولاسيما مع إيمان الجميع بوجود خطط خبيثة استهدفت الوعي والهوية والانتماء والوحدة المجتمعية والوطنية، مايتطلب المباشرة بالتصدي لهذه الخطط وإفشالها بفضح أساليبها وأدواتها وأهدافها.
هذه الخطط انطلقت من استهداف البنى الفوقية «المعنوية» قبل البنى التحتية «المادية»، وهذا خطر كبير علينا تجاوزه بإعلاء الشأن السياسي والفكري على المطلبي، فما يُطرح مع عضو القيادة وأمين الفرع يختلف عما يُطرح مع الوزير والمحافظ.
د. عبد اللطيف عمران