آل سعود يمجدون “المحرقة”
قسم الدراسات
لم تعد العلاقة العضوية بين آل سعود والكيان الصهيوني واحدة من الأسرار التي حرص طرفا المعادلة على توريتها طوال العقود الماضية، وبات الحديث عنها علناً خلال الأشهر والسنوات الماضية، وأصبحت مفردات التطبيع والزيارات المتبادلة وإصدار المواقف المتماثلة والتشابك الأمني والمصالح المشتركة واحدة من القضايا اللافتة عند الحديث عن آل سعود وإسرائيل.
وفيما يلي مقالة من جملة مقالات تكشف هذه العلاقة، وبأقلام أصحابها ومنظريها، ومنهم روبرت ساتلوف المدير التنفيذي لمعهد واشنطن وفيما يلي مقالة له بعنوان “صحوة التوعية التاريخية لـ «المحرقة» في السعودية بالذات” وقد نشرها قبل أيام معهد واشنطن وصحيفة “نيويورك ديلي نيوز”. ونظراً لأهميتها كوثيقة تكشف تلك العلاقة ، نقدمها كما كتبها ساتلوف بقلمه.
يصادف يوم السابع والعشرين من كانون الثاني -الذي هو الذكرى السنوية لتحرير معسكر “أوشفيتز” [للاعتقال والإبادة من قبل ألمانيا النازية] -“اليوم الدولي لإحياء ذكرى «المحرقة»”.
ويحث قرار الأمم المتحدة – الذي أرسى الأساس لإحياء هذه الذكرى – جميع الدول على “وضع برامج تثقيفية لغرس ذكرى المأساة في نفوس الأجيال المقبلة لمنع وقوع إبادة جماعية مرة أخرى”، وقد اتخذت المملكة العربية السعودية خطوة أولى هامة نحو الوفاء بهذه المهمة.
ماذا قلنا؟ المملكة العربية السعودية؟ أرض النقاء الديني، التي احتفل ملكها (فيصل) فيما مضى بـ “بروتوكولات حكماء صهيون” كوقائع تاريخية، والذي ندد ممثله في الأمم المتحدة ذات مرة (جميل بارودي في عام 1976) بيوميات آن فرانك ووصفها كمزيفة، وادّعى بأن قتل الملايين من اليهود من قبل النازيين كان خيالاً؟ الدولة التي لم تضم فقط بين مواطنيها 15 من بين 19 مرتكبي هجمات 11 أيلول، بل أن تسلسلها الهرمي الديني عمل لعقود من الزمن على تصدير التعصب وعدم التسامح إلى المساجد والمدارس الدينية في جميع أنحاء العالم، مما أجج الكراهية التي ازدهرت من خلالها تنظيمات وحركات مثل «القاعدة» و«داعش» و«حماس» وجميع الحركات الإسلامية المتطرفة؟.
نعم، إنها المملكة العربية السعودية. وفيما يلي الخلفية.
في مطلع كانون الأول الماضي، ترأستُ وفداً من الرؤساء العلمانيين لمركز الأبحاث لشؤون السياسة الخارجية الذي أُديره، في زيارة إلى العاصمة السعودية، وكان من بين كبار المسؤولين الذين التقينا بهم خلال زيارتنا التي استغرقت ثلاثة أيام، الأمين العام لـ “رابطة العالم الإسلامي” الدكتور محمد العيسى.
وتعد “الرابطة” المنظمة التي طالما ذُكرت كمُسهّلة رئيسية للجهود العالمية التي تقوم بها السعودية لتصدير نسخة متطرفة من الإسلام المليء بالكراهية، والمعادي للغرب، والمعادي للسامية، ففي العام الماضي فقط، وصف معهد بحوث بريطاني بارز المملكة العربية السعودية بأنها المصدر الرئيسي للتطرف الإسلامي في المملكة المتحدة، وأشار إلى “رابطة العالم الإسلامي” كمحور حاسم في هذا المشروع.
ومن الناحية العملية، يبدو أن التغيير داخل “رابطة العالم الإسلامي” بدأ بتعيين العيسى في آب 2016 وكان قد شغل سابقاً منصب وزير العدل السعودي. وحيث يأخذ تعليماته من ولي العهد الحالي محمد بن سلمان، الذي تعهد بتطهير بلده من التطرف وإعادته إلى “الإسلام المعتدل”، يبدو أن العيسى يتمتع بصلاحية محددة لتحويل “رابطة العالم الإسلامي” من منظمة مرادفة للتطرف إلى منظمة تُبشر بالتسامح.
وما لا يقل أهمية هو أن العيسى وعد بإعادة تشكيل “رابطة العالم الإسلامي” وتحويلها إلى منظمة تركز على الدين فقط، مع استبعادها تماماً عن السياسة، باستثناء سياسات مكافحة التطرف.
في البداية، كنتُ متشككاً، ففي السعودية، حيث تعول العائلة المالكة على حماية الأماكن المقدسة في مكة والمدينة كمصادر رئيسية لشرعيتها، وحيث أن الممارسة الدينية العلنية للصلاة غير الإسلامية محرّمة، فإن الدين والسياسة يرتبطان ارتباطاً وثيقاً ببعضهما البعض.
لكن في اجتماعنا في كانون الأول مع العيسى، أثار ملاحظة مثيرة للإعجاب، ليس فقط من خلال تأكيده على التزامه الراسخ بالتواصل الديني -وهو أمر غير عادي بالنسبة للسعودية- وتحدّثه باعتزاز عن زيارته الأخيرة إلى كنيس يهودي في باريس، إلّا أنّه رفض أن يلتقط الطُّعم (ولم يقع في الفخ) عندما سُئل عن رأيه حول اعتراف الرئيس ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وإذا كنتُ أتوقع من أي مسؤول سعودي أن يبدي قوته، ويَعِظ حول علاقة المسلمين بالقدس ويشجب قرار الرئيس الأمريكي بالاعتراف بسيادة الدولة اليهودية في أي مكان في المدينة، لكان هذا الشخص الأمين العام لـ “رابطة العالم الإسلامي”، وبدلاً من ذلك، رفض التعليق بأدب، قائلاً فقط إن “الرابطة” ملتزمة بالسلام وليست هيئة سياسية.
وعندما عدتُ إلى الولايات المتحدة، كتبتُ إلى العيسى، وشكرتُه على اجتماعنا ودعَوْتُه إلى واشنطن لمخاطبة المؤتمر السنوي للمعهد الذي أديره في أيار القادم، وأضفت طلباً آخر حيث كتبتُ: إذا ما جئت إلى العاصمة الأمريكية، فسأحثك على زيارة “المتحف التذكاري لـ «المحرقة» في الولايات المتحدة” ولقاء مديرته سارة بلومفيلد.
وفي هذا الصدد، أود أن أذكر أنه لمدة دامت أكثر من 15 عاماً، كانت إحدى شُغُفي الشخصية هو إشراك العرب والمسلمين في النقاش حول “الهولوكوست” (“المحرقة”)، ويستند ذلك إلى إيماني بأن هدم جدران إنكار”المحرقة”- المنتشر على نطاق واسع في الثقافة العربية والإسلامية – هو عنصر جوهري في الكفاح الأوسع ضد الكراهية التي تقع في صميم التطرف الإسلامي، وكان لي شرف العمل مع “المتحف التذكاري لـ «المحرقة» في الولايات المتحدة” في محاولة طموحة لإضفاء الشرعية على المناقشات المتعلقة بـ”الهولوكوست” في البلدان العربية والإسلامية والمساعدة في منع حدوث إبادة جماعية في المستقبل من خلال نشر دروس “المحرقة”.
لقد حققنا نجاحاً باهراً، وخاصة في المغرب، حيث أيّد شقيق العاهل المغربي مؤخراً تدريس “المحرقة” كأداة مهمة في المعركة ضد التطرف، وفي تونس، حيث عقد المجتمع المدني مؤخراً مراسم “يوم ذكرى «المحرقة»”.
لكني في أحلامي الأكثر خيالية، لم أفكّر على الإطلاق بأن السعودية جديرة بأن تُدرج على قائمة البلدان “التقدمية”، وقد فاجأني العيسى، وسرعان ما تلقيتُ جواباً يُرحب بدعوتي ويوافق على زيارة المتحف، وفي حين أنه لن يكون أول مسلم بارز يقوم بزيارة المتحف، إلّا أن الأمين العام لـ “رابطة العالم الإسلامي” سيكون أرفع مسؤول ديني مسلم يقوم بمثل هذه الزيارة وهي خطوة هامة في عملية إضفاء الشرعية على النقاش الإسلامي حول “المحرقة”.
وبعد ذلك، كانت لي فكرة أخرى على غرار: “لِمَ لا؟.” فاغتنمت ذكرى السابع والعشرين من كانون الثاني، وكتبتً إلى العيسى مستفسراً عما إذا كان سيبعث برسالة إلى بلومفيلد بمناسبة “اليوم الدولي لإحياء ذكرى «المحرقة»” بحيث يمكنها نشرها على الملأ، واقترحتُ أن تعكس الرسالة مقاربته ونهج “رابطة العالم الإسلامي” تجاه “المحرقة” والمعركة الأوسع من أجل التسامح والاعتدال.
وعلى أقصى تقدير، توقّعتُ أن يرسل لي ملاحظة مقتضبة، ولأنه ليس لدى المسؤولين السعوديين الكثير مِن كُتب الإرشادات حول كيفية كتابة رسائل لإحياء ذكرى “الهولوكوست”ـ إلا أن العيسى فاجأني مرة ثانية، فقد كتبَ رسالة طويلة، تم نشر جميع كلماتها الـ 623، وبإذن من “متحف «المحرقة»”، على موقع معهد واشنطن، وقد وصف في رسالته «المحرقة» بأنها “الحادثة التي هزّت البشرية في العمق وأسفرت عن فظائع يعجز أي إنسان منصف ومحبّ للعدل والسلام أن ينكرها أو يستهين بها”.
وسوف أقتبس بإسهاب مما كتبه العيسى: “لا التاريخ سينسى هذه المأساة الإنسانية التي ارتكبتها النازية الشريرة، ولا أحد سيمنحها مباركته ما عدا النازيين المجرمين وأمثالهم، وإن الإسلام الحقيقي يحرّم هذه الجرائم ويدينها بأقصى درجات العقوبات الجنائية ويصنّفها ضمن أقبح الفظائع الإنسانية على الإطلاق.
كما كتب: “إن أي امرئٍ عاقل يمكن أن يتقبّل أو يتعاطف أو حتى يقلل من حجم هذه الجريمة الوحشية؟ وعزاؤنا الوحيد هو أن ذاكرة التاريخ منصفة وحيّة وأن العدالة، باسم البشرية جمعاء، تحزن وتأسف على هذه الجريمة، وبعيداً عن كل التحيزات، فقد دفع هؤلاء الضحايا حياتهم البريئة ثمن تذكيرٍ لا يُنسى بالحرية والعزم، فكانت تضحيتهم نموذجاً يعكس مدى الحقد النازي الذي أوقع العالم في الحروب والكوارث”.
وحول إنكار “المحرقة”، كانت للعيسى كلمات قاسية بشكل خاص: “التاريخ لا يعرف الانحياز مهما حاول المخادعون التلاعب أو العبث به، ومن هنا، نعتبر أن أي إنكار للهولوكوست أو تقليلٍ من تأثيراتها هو جريمة تشويه للتاريخ وإهانة لكرامة الأرواح البريئة التي أزهقت، لا بل هو إساءة لنا جميعاً، لأننا جميعنا ننتمي إلى الروح البشرية نفسها ونتقاسم الروابط الروحانية نفسها”.
وعلى عكس العديد من المحاورين المسلمين الذين ناقشتُ معهم هذه القضايا على مر السنين، لم يحاول العيسى إبعاد الانتقادات المحتملة الناتجة عن مشاركته في الحديث عن “المحرقة” من خلال تستره وراء التشابه الكاذب لـ “الإبادة الجماعية” التي يُزعم أن إسرائيل تمارسها ضد الفلسطينيين، بل على العكس من ذلك، فقد ابتعد عن القضية تماماً، وبدلاً من ذلك أكد الإستراتيجية غير السياسية التي أعلن عنها في اجتماعنا في الرياض، وهي أن: “رابطة العالم الإسلامي مستقلة تماماً عن أي أهداف سياسية، أو ميول أو غير ذلك، لكنها تُعبّر عن رأيها بحيادية تامة؛ وهذا الحياد لا يعتمد على أي لهجة سياسية على الإطلاق”.
على وجه العموم، إنها وثيقة جديرة بالملاحظة، لافتة للنظر في تأليفها، ومحتواها، ورحابتها، ورسالتها، وأَفْترِض أن هناك العديد من الأسباب -وبعضها مقدسة، وبعضها أقل من ذلك- وراء اتخاذ رئيس “رابطة العالم الإسلامي” المبادرة للكتابة والتنديد بإنكار “المحرقة”، وكما يودّ ابني المراهق القول، هذه ليست أول مهماتي، ولكن الفعل أكثر أهمية بكثير من الدافع، وأنه بعد كتابة كلمات العيسى، لا يمكن التراجع عنها بسهولة، وبفضله، سيتم تذكر هذا “اليوم الدولي لإحياء ذكرى «المحرقة»” باعتباره المناسبة التي اتخذت فيها السعودية -المدافعة عن أقدس موقعين في الإسلام- خطوة هائلة نحو الانضمام إلى العالم باعترافها بالإثم الكبير الذي ارتُكب في “الهولوكوست”، والسؤال هنا: هل يجب القيام بالمزيد؟. نعم بكل تأكيد، لكن دعونا ننسب الفضل إلى أهله.