صفحة من كتاب
بينما كان يقوم بترتيب مكتبته الصغيرة، وجد دفتر يومياته مع أصدقاء عمره، ولأنّ المحبة نهرٌ يجري عذباً في صدر الزمن القاحل تذكر صداقته المتينة وراح يقلب دفتر مذكراته، ليعيش بين سطورها أجمل ما دونه له صديقه
من هنا حيث الجبال الراسخة تزاحم السهول لئلا تشاركها متعة جمال الشروق، وحلاوة دفء شعاع الشمس الذهبية حيث أشجار اللوز العفيف الساقعة وشجيرات البطم تتنافس فيما بينها على من يستقبل الشمس أولاً، حينها كنت وإياك نطوي الطريق صاعدين في الوادي الذي كنا قد انتهينا من العمل في الأرض الموجودة فيه، وقطفنا بضع ثمار ناضجة من شجيراته المثمرة، حيث كانت جميع الأشجار ترسل حفيفاً عميقاً دافئاً، ومن بين هذا التناغم الملتحم والمتحد لهذا الكون المستمر ألف خرير شلال جدول أبدي التدفق لا يزول، ولا يفنى. إنها تؤلف كوناً عقلياً تأملياً خاصاً يستوعبه كل من يدرك كيف يصمت هذا الكون لترقص الكائنات، ليسير الزمن بالإنسان أتذكر شهر آذار حيث كان هذا الشهر يمسح الطبيعة فتتحول مزهرة مزركشة بأزهار من كل صنف من أصناف الثمار المكتظة. شهر آذار يمسح الفضاء فينشر النسيم بليلاً مشبعاً برائحة الزهور، إنه يمسح الخراف فتثب من سباتها وثبات لا تعرف مغزاها، وكأنها تستجيب لنداء الطبيعة الخفي ذي الجرس الندي يسترد في ركنه غريزتها كل عام، في الوقت نفسه لا بد أن تذكر مدى جمال هذا اليوم ومدى السعادة التي عشناها فيه، خاصةً ذاك اليوم الذي راح اللوز ينافس بأغصانه الخنجرية القاسية أسنان حجارة صلبة بارزة صماء جرداء توزعت بشكل عفوي كسيوف مسلطة على رأس كل جبل، حيث كل هدوء لحن للطبيعة خالد، كأن الطبيعة أدركت أنها لن تدرك الزمن فاطمأنت وركنت. كانت مخلوقاتها تتجه إلى منافذ تؤدي إلى شلالات لتروي عطشها من مياهها القارسة العذوبة، إلا أن ما يروق العين من جمال ويبهج النفس، هو رؤية الغزلان التي تظهر أبداً وكأنها في عيدٍ دائم، وهي تتنافر وتقافز من رأس إلى رأس، حيث حفيف النسيم وهو يقبّل أوراق الشجر وخرير الشلالات، وهي تنهال من الأعلى إلى صدر جدول رقراق مسقسق، حيث صفير الهواء في أذني الوديان، وفي ثنايا الفجوات وشعاب الجبل ندياً نشيطاً على صوت صباح متموج القدوم، نيساني الهمس وضاء الخطا، فاستوى العشب يستقبله رسيلاً مشبعاً رياناً، وبالحياة يسمع سقسقة الجدول البطر، تنشر كلها آمال الإنسان على شعاع ذلك الصباح وتذروها إشراقاً وعملاً لتمتزج مع تسابيح الطيور التي شرعت تتناوب التناغم مع حفيف الأشجار، كل هذه الألحان تنصهر في وحدة كونية يبعثها ناي الوجود الدائم المتتابع التعاقب، انتهى من هذه الصفحة وأغمض عينيه مبتسماً يحاول أن يبقي نفسه في النشوة التي عادت إلى صدره وهو يتذكر تلك الأيام.