“ما أصغر اللوحة.. ما أكبر الفكرة”!؟
أكسم طلاع
“ليل العالم” عنوان معرض الفنان التشكيلي محمود جوابرة الذي افتتح في صالة الآرت هاوس مؤخراً قدم عبره رؤية تشكيلية خاصة بالعمل الفني، ومحاولة طرق أبواب التعبير الممكن تحميلها من خلال اللون والخط والتجريب التقني على سطح ينضج بخبرة خاصة يكتسبها المشتغل في إنتاج الفن ومتابعة أدواته الجديدة، وما من شك أن هذا الرجل المشبع بالمكان والضوء والعاطفة، والواثق من جدية العمل الفني المكتسبة بالمران وصقل الروح يفعل فعل السيدة التي تمسك بيدها “مدلك الحجر” وتدرك أن هذا السطح الطيني لن يكون مستويا إلا بما تقبض عليه بكفها التي تؤثث في صلابة سطح جدار غرفتها الترابي ليكون مؤهلا للجبس والبياض ولمفردات الحياة التي ستعلّق عليه. هذا الفعل بما فيه من عناد وإصرار يقارب فعل من يرسم لوحته المثقلة بتوقعات وولادات قادمة وغامضة بما يكفي لأن تجعل من الأمر شيئا جديدا، يدافع بتضاريسه عن غربة استولت على الضمير والوجدان في مكان مدجج بالفجاجة والقبح ولن يصلح حاله إلا “بمدلك” الحياة القائمة على الأسئلة العميقة، والوعي والمسؤولية بمصير هذا الإنسان المبدد والمقلوب في رحم يوميات الحروب والبؤس والأوهام، أسوق فعل الـ”مدلك” هنا لأن فناننا يفعل فعله في ذاته العلوقة بالتوقعات الجميلة، وفي سطوحه التي يلونها ويؤلفها ويسوي بعض نتوءاتها ليس من باب التسطيح، بل لجعل الأمر أكثر فداحة وخسارة وأكثر صلابة لمواجهة رخاوة أخلاق هذا العالم، مثلما يحذف ويضيف إلى هذا السطح التعبيري ليجعل منه مدلوكاً بما يكفي من لياقة بالأشياء والأساطير والأدبيات المحملة في روح فاعلها المكتملة بخساراتها الجميلة، لأن الخسارات السهلة لا تقع إلا في دائرة الحب، بينما تلك الدروس المستلذة بالألم ستجعل الزمن مدلوكا وأكثر غموضا وفجائعية ودراماتيكية في مستقبلها.
“عوالم ليست بالحسبان وليل العالم مرآة الذات المتهتكة” أسئلة سوداء حول الذات والهوية وطواحين الهواء والشاهد وأنكيدو.. عناوين كثيرة جعلت من الصعوبة الإجابة على كل هذا، ربما أن في اللا إجابة مكمن الفن، فاليقين يقع في تلك الدرجات من اللون الأسود الطاغي على مساحات اللوحة والإطار، ربما الولوج في عباءة الظل حيث لا لون صريح مثل كلمة وترددات الفكرة شكلاً ومعنى، تلك التي يبحث الفنان عنها في الظلمة بحثاً عن أسرارها ودرجاتها، بوحشة واغتراب حيث لا اللون يكفي ولا القول، لأن مساحة اللوحة أصغر من مساحة القلب.. هذه الفكرة القلقة تستوطن حركة التعبير في اللون البني والأحمر الموصول بتلك الذاكرة المنهكة البعيدة من سهول حوران، بفعل تلك الفلاحة العميقة في الذاكرة المنهكة بالخسارات التي لا بد منها للمبدع حتى يجعل من الأمر شيقاً وممكناً وأكثر يقيناً بما يعشق، إليه خلاصاً من اللوبان الطويل حول قيمة الأشياء ومعنى الفن حين يكون أمراً مختلفا عن الرسم والتصوير المباشر بحرفية الحياد والبرودة. معرض يستحق أكثر من إشارة ومراجعة بعين الفكر لأنه أنتج بأصابع ترى وترتجف قبل الكلام.