أمهات على نبض الحرب
سلوى عباس
منذ أيام كانت الاحتفالات تملأ الدنيا ابتهاجاً وفرحاً بعيد الحب، كل يسعى إلى ترتيب مواعيده على نبض قلبه، إلا الأم السورية ظلت أيقونة للأعياد، تحلّق في سماءات لا نعرفها، أم، استلت أرواحنا من رمادها وأشعلت فينا دفئها المدهش.. استمطرت نجومها على قلوب أبناء ناداهم الواجب فلبوا النداء، أم.. أومت أن يزهر الياسمين فأزهر، وألمحت للشمس أن تمدّ ضياءها فيهم فانداح نهر من النور.. تلك الأم أمسكت بأبنائها وقرأتهم ككتاب، فهدأت أرواحهم بين يديها وأسكنت فيهم السلام.
بالأمس كانت أم شهيد ضيفة في برنامج “نساء في الحرب” الذي تقدمه الإعلامية رائدة وقّاف، جاءت من حلب التي عانت من ويلات الحرب الكثير، جاءت تتحدث عن تجربتها في مجابهة الحرب.. كانت تلك الأم تتحدث عن ولدها بكامل بهائها وتعترف بخجلها من حزنها على فقده، أمام إصراره هو على أداء رسالته، ووفاء دينه لوطنه الذي ربّاه وزرع فيه قيم الشهامة، فتعاهدت هذه الأم مع أمهات كثيرات يشبهنها في الفقد أن يكملن رسالة أبنائهن في البذل والعطاء وكم استوقفني هدوءها وحديثها عن الخجل الذي ينتابها عندما تلتقي بأم قدمت للوطن أكثر من شهيد، فتحتار ماذا تقول لها وبأي كلام تخاطبها، وترى نفسها أصغر من قاماتها.. كم كانت جميلة تلك الأم التي كانت تتحدث عن محبة ابنها لبلده واختياره الالتحاق بالجيش ليكون على قدر محبته لوطنه يبادله الحب بالحب والوفاء بالوفاء، فهذا الشاب الصغير هو ابن هذا البلد الكبير الذي تمثّل أبناءه قيم الحب والتضحية والفداء، هؤلاء الأبناء الذين وعوا منذ الصغر أنهم بدون الوطن لا معنى لحياتهم.
اليوم.. مع سنوات الحرب السبع تحوّلت الأم السورية إلى حبة عنب تعطي دناً من خمر عتيق، تختصر أبجديات اللغات، وتزين أرواحنا بالحب، ومع كل شهيد تفسح في نفوسنا حيزاً لانبثاق حياة، فسبحان من أولاها شأن أن ترسل من صبرها غمامة من بهاء الحياة تغسل الكون بمائها المعسول بالصبر والأحلام وصيرورة الحياة. سنوات سبع وما زالت أم الشهيد تتجاوز حزنها لتهدهد بين راحتيها أرواح أيتام عبثت بقلوبهم الحرب، وتلوّن صباحاتهم بالمطر، وكل صباح تبث فيهم حبها وصبرها.
للسنة السابعة على التوالي، تتجلى أعيادنا بعطاءات وتضحيات جيشنا الذي أثبت حضوره وانتزع الانتصار من أعدائنا، وهاهو اليوم، وفي كل لحظة يثبت أنّه على قدر العزم الذي عوّل الوطن على بطولاته وتضحياته، فكان مثالاً للإقدام والعنفوان والإباء، يعطي ويجزي العطاء، ويملأ الدنيا حباً ووروداً، فكانوا هم الحب والعيد بوروده التي كانت أكاليل غار على قبور الشهداء.. هي حكاية وطن يعيش مع كل انتصار يحققه أبناءه عيداً للحب.. فهل أجمل من هكذا عيد ومن هكذا حب.. فلجنودنا المرابطون على جبهات الوطن يحرسونه ليبقى قوياً مشرقاً بإيمان أبنائه به الذين يحملون رايته بيرقاً موسوماً بالحلم.. هذا الحلم الذي لم يتوقفوا لحظة عن نسج خيوطه، وتنبت بطولاتهم شجرة من عبق الحياة..