عن الحب
محمد راتب الحلاق
الحب، بتجلياته المختلفة، يرتد إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، ويتم التعبير عن عاطفة الحب بأساليب عديدة، تومئ جميعاً إلى تلك العلاقة، مع ضرورة الارتقاء بها من المستوى الحسي إلى مستويات عليا وسامية من التجريد.
والحب ظاهرة إنسانية مركبة من المستحيل تقديم تعريف جامع مانع لها، فالحب “دقّت معانيه لجلالتها على أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا في المعاناة” حسب ابن حزم في كتاب طوق الحمامة. والحب يُعَاشُ ولا يُعَرَّف. وقد يكون من المفاجئ أن أقول: إن العلاقة بين المحبّ والمحبوب تقوم على النرجسية والأنانيّة والاستحواذ وليس على الغيرية والتضحية، فكل طرف في هذه العلاقة يحاول أن يمتلك الآخر، وأن يدمجه في ذاته لا أن يندمج معه، إلى الدرجة التي يستطيع أن يقول كلٌ منهما للآخر: يا أنا (حسب الرسالة القشيرية). ومن الظلم أن نهبط بعلاقة الحب بين الرجل والمرأة إلى مستوى إشباع الرغبة والغريزة، ذلك أن هذه الرغبة يمكن إطفاءها مع أي شخص من الجنس الآخر، في حين أن الحب لا يتوجه إلاّ إلى شخص محدد بعينه، بعد أن يتم اصطفاؤه، بوعي أو من دون وعي، ليغدو وكأنه الوحيد الذي خُلِقَ من أجل هذه العلاقة. وعندما تكون العواطف متبادلة، يشعر العاشقان بأنهما ما خلقا إلاّ ليحب كل منهما الآخر.
ومن حق القارئ أن يتساءل قائلاً: ألا يضمر قولك بأن الحب يرتد في النهاية إلى العلاقة الخاصة بين الرجل والمرأة فكرة تقول: إن الحب الحقيقي لابد أن يعرف تلك العلاقة ولو بالتوهّم والتخيّل؟ وأقول نعم، ولكن لابد من أن يتجاوزها إلى آفاق تفوق الوصف والتحديد، وما لم يصل العاشق إلى هذه الدرجة من الارتباك فلا ينبغي له أن يدّعي الحب؛ أما من يستطيع أن يصف حبه بكلمات منمّقة ومرتّبة فلا يعدو أن يكون عاشقاً مزيّفاً، شأن معظم الشعراء، الذين تصلح كلماتهم للاستعارة من قبل العاشقين المزيّفين أمثالهم. ومصدر الارتباك أن الحب لا يقوم على مقدمات يلزم عنها نتائج، ومن هنا شاعت مقولة: الحب أعمى، التي نطلقها في كل مرة نعجز فيها عن تفسير العلاقة بين عاشقيْن، ذلك أننا ننظر إليها بعيوننا نحن لا بعينيْهما، ولسان حال الواحد منهما يقول لصاحبه:
إنّي أحبّكِ حبّاً ليس يبلغُهُ فَهْمٌ
ولا ينتهي وصفٌ إلى صِفَتِهْ
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي
بالعجز مني، عن إدراك معرفتهِ
إذ لا يرى المحب في محبوبه إلاّ الروعة والجمال والكمال.
يقول الجاحظ: “ذلك أن العاشق كثيراً ما يعشق غيرَ النهاية في الجمال، ولا الغاية في الكمال، ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة؛ ثم إذا سئل عن حجته في ذلك لم تقم له حجة…”، والمشاهدة ترينا ما يؤيد ذلك أكبر تأييد، إذ يستحوذ المحبوب صفات أخرى لا يدركها إلا العاشق، يقول ابن حزم: “ولو كان علة الحب حُسْن الصورة الجسدية لوجب ألاّ يُسْتَحْسن الأنقص في الصورة.. ونحن نجد كثيراً ممن يُؤْثر الأدنى ويعلم فضل غيره ولا يجد محيداً لقلبه عنه…”.
أما عدم مبادرة المرأة إلى التعبير عن حبها ومشاعرها، كما يفعل الرجل، فمن نتائج الإكراهات الاجتماعية، ولا يعود إلى طبيعة المرأة وتكوينها:
عيناكِ شاهدتان أنّكِ من
حَرّ الهوى تجدينَ ما أجدُ
بكِ ما بنا لكنْ على مضضٍ
تتجلّدينَ، وما بنا جَلَدُ