الحنين إلى زمن “الشاه”!!
هكذا، وبجملة واحدة، أصدر “عادل الجبير”، عالم الاجتماع السياسي الجديد ووزير خارجية آل سعود، صك براءة لتاريخ طويل من المآسي المتتالية الناتجة عن أحداث كبيرة منذ “سايكس-بيكو” وحتى “كامب ديفيد”، حين أكّد في مؤتمر الأمن في ميونيخ، ودون أن يرف له جفن، أن “مشاكل المنطقة بدأت مع ثورة الخميني عام 1979”!!..
والحال فإن عبارة “الجبير”، التي تشي بالكثير وتحمل العديد من الدلائل والرسائل المتعددة الاتجاهات، غير معزولة عن السياق الحالي السائد في منطقتنا، والذي يشهد أكبر عملية من نوعها لـ”كيّ” الوعي الشعبي العربي وتغيير بوصلته الوطنية والقومية، عبر تقديم صك براءة مريب لكل غاز ومحتلّ مر على المنطقة، على الأقل منذ بداية القرن الماضي، وبالتالي، وفق هذا السياق، فإن السياسة الفرنسية البريطانية لم تكن مسؤولة عن تقسيم المنطقة إلى كيانات مشوّهة ومشيخات خانعة وتابعة، كما لم تكن بريطانيا بدورها مسؤولة عن زرع “إسرائيل” في قلب الأمة وما جرّه ذلك من ويلات على المنطقة وأهلها، وبالاستنتاج المنطقي لا تكون هذه الأخيرة مسؤولة عن المآسي التي شهدتها المنطقة منذ النكبة وحتى اليوم، فالمسؤول، في عرف “الجبير”، هي دولة أخرى عمدت ومنذ اليوم الأول لثورتها إلى استبدال السفارة الإسرائيلية في عاصمتها بسفارة فلسطينية ترفع علم فلسطين وتطالب بتحريرها.
وبالطبع فإن صك البراءة هذا يصيب، فيما يصيب، وبأثر رجعي مملكة “الجبير” ذاته، ليس فقط عن دورها السري في قيام “إسرائيل”، ثم في التطبيع معها، ولنتذكر دورها في دفع “السادات” نحو “كامب ديفيد” وأحضان “إسرائيل” وأمريكا، بل أيضاً عن مشاركتها في زعزعة استقرار المنطقة عن طريق تأجيج الصراع المذهبي كما في لبنان والعراق واليمن، أو المساهمة المالية، الموثّقة، في بعض الانقلابات التي شهدتها سورية في الخمسينيات، وفي فك عرى الوحدة السورية المصرية، ومحاربة أي توجّه تقدمي عربي، أو “إسهامها” الكبير في ترسيخ الإرهاب سياسة رسمية عبر دعمه، منذ القضية الأفغانية، مالياً وفكرياً لصالح واشنطن وأجنداتها في المنطقة والعالم.
لكن الأمر لا يتوقّف على ما سبق، فالرجل حين يحمّل “الثورة الإسلامية” مسؤولية الاضطرابات في المنطقة فإنه يبدو كمن يحن إلى زمن “إيران الشاه”، التي كانت شرطي الخليج لصالح واشنطن ودورها في حربي “67” و”73″ حين استخدمت الطائرات “الإسرائيلية” النفط الإيراني في كل عملية عدوانية ضد العرب، وإلى مشاركة نظام بلاده معها في “نادي السفاري” الشهير لخدمة المصالح الغربية في المنطقة والعمليات المشينة التي قام بها هذا “النادي” في أفريقيا وغيرها.
بيد أن لـ”الجبير” ونظريته أهدافاً أخرى تتجاوز منح صكوك البراءة عمّا مضى، لتندرج في ما هو آت عبر معركة من أخطر المعارك وأهمها لأن رحاها تدور، باسم “صفقة القرن”، على الوعي العربي الجمعي، بهدف إعادة تشكيله وصياغته ليصبح قيد السيطرة، مما يسهل معه توجيه “العربي الجديد” لتحقيق ما يصبو إليه رعاة أنظمة النفط والغاز من أهداف، وعلى رأسها إشعال صراعات ثانوية جديدة تستنزف طاقة الأمة، كما في قادسية صدام التي يطمح الجبير لتجديدها، بهدف حرف وجهة الصراع الأساسية في المنطقة من الصراع الوجودي مع العدو الصهيوني إلى صراعات “وجودية” مع من يقاومها – وكان من اللافت للنظر تطابق كلمة “الجبير” مع مضمون كلمة “نتنياهو” في اجتماع ميونيخ ذاته- لأن الصراع مع “إسرائيل”، بحسب هذه النظرية، مجرد سوء فهم لغوي مزعج على حدود جغرافيّة يُحَلُّ بتنازل سياسي هنا أو تبادل أراض هناك، وليس صراعاً بين مشروع تحرّر وطني خالص ومشاريع خارجية تريد دوام الإركاع والاستتباع.
خلاصة القول: هي نظرية جديدة تندرج في سياق الزمن “الإسرائيلي” المرغوب من بعض المشيخات والممالك، لكن ورغم الظاهر “العنتري” لها، إلا أنها تضمر الخوف من زمن بدأ يعلن عن نفسه بأشكال متعددة، زمن يملك فيه أبناء المنطقة الكلمة العليا فيها، وهنا مقتل نظرية “الجبير”، وذلك مكمن رعبه الحقيقي ورعب مشغليه.
أحمد حسن