الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

سراق الوطن!؟

د. نهلة عيسى

أنا حزينة, ولا أظن أن حزني يحتاج لتبرير, فكلنا في الحزن سوريون, إلا أن حزني ليس مرتبطاً بالحرب, التي باتت جلداً يرتدينا, بل مرتبط ببوابات القهر اليومية, التي تتلقف الواحد منا وكأنه حقيبة سفر في مطار صحراوي لاتحط فيه سوى طائرات الأفيون والهيروين, ولايرتاده سوى قطاع الطرق ومهربو الحشيش والكيف, لتتقاذفه المهانات وتحاصره الإتاوات, ويعبر فوق بقايا كرامته, والقبضايات يترصدونه كما يترصد الصياد الفريسة, ويتولون قسراً إدارة تفاصيل حياته, ويفرضون عليه كرهاً قيمهم وسلوكهم ومزاجهم وعاهاتهم النفسية, ويحاسبونه على تقطيب الحاجبين, باعتباره خيانة وطنية؟!
أنا حزينة, لأن من كانوا سبباً في خرابنا, ما زالوا يتولون خرابنا, وما زال صبيانهم الخارجون عن طوعهم يجرمون النبيل فينا, ويلقون بعارهم علينا, ويجبروننا كما في الأيام الخوالي, عندما كانوا يجبرون “أم الصبي” على تجرع حساء الحصى, بتهمة أننا أزلام من كانوا هم صبيانهم بالأمس, وكأن الأمس مقيم لا يغادر بلادنا, يجتر فوقنا الأمراض التاريخية لمقاولي وتجار الشعارات الوطنية, والتنظير البائس لمن خانوا, مطلياً بألوان علم غابر من أعلامنا الوطنية؟
أنا حزينة, أبحث عن أحد يبرر لي لماذا إذا نجونا من قصف الهاون, نتعرض لقصف لامتناهٍ من تجاوزات القبضايات هذا الزمان, ولماذا يتبارون في عنف مذل بارد غير مرئي على تخاطف أشلاء صبرنا, وخطف إراداتنا, لنتحول الى قطيع مسالم يدفع عن القبضايات ثمن الكهرباء التي يسرقونها, والأغذية والأدوية الفاسدة التي يبيعونها, وأجرة التكسي أو الميكرو التي يفرضونها,والأرصفة التي ندفع نحن (المساكين المنضبطين) ضرائبها ورسومها, وتحتلها سياراتهم ودراجاتهم أو بسطاتهم أو أكشاكهم, أو ورشات بنائهم غير المرخصة, أو أجسادهم التي تنتحل زوراً زي حماة الوطن, إضافة إلى الرشاوى التي يطلبونها تحت مسميات عديدة, بداية بإصلاح الهاتف وليس نهاية برفع القمامة من الطريق, رغم أن شوارعنا أنستنا الفارق بين الحديقة والمزبلة, وبين العبوة الناسفة والصراخ, وبين البارود والحبر, وليُلطخ شرف حماة الوطن بقبائح سراق الوطن!؟.
أنا حزينة, أبحث عن عابري الأهمية أمثالي, والذين يراهم صانعو الخراب عقبات تسد السبيل, ليذكروني ألا أنسى كيف أغضب, وكيف أثور, ولماذا أبقى هنا, وكيف أمنع نفسي من التحول إلى صوت مازوشي في جوقة ترمي على كتف الصدفة أو القضاء والقدر, بالمسؤولية عن كل الجرائم التي تطالنا, وكأنها عقاب إلهي مستحق, ولماذا يجب ألا أتوقف عن الجري خلف الأجوبة عن أسئلة صحيحة مزمنة, كالمشنوق يحتمي بمشنقته, ويتقي بها ساطور الجلاد, ويجد في الشنق أهون الشرين, ليقينه أن الصمت على القبح مساهمة في تنشيط نسله وتناسله, والحياد أمام الفساد هو الوجه الثاني للموت اليومي المفروض, وتستر على النتيجة خوفاً من مناقشة السبب!.
أنا حزينة, لأن صناع بؤسنا يفسرون قصاصنا على صدقنا, بأنه مجرد استفسار, ويبررون موتنا العبثي بأنه أمن وقائي, وجوعنا صمود, ونشيج سيارة اسعاف تقل شهيداً, ونواح أخرى تقل ضحية, على أنه انتصار, والمزاد علني ومفتوح, والمرتزقة في الداخل والخارج كثر, والوسطاء ممتنعون, ولكني خلافاً لقناعات العديد من البشر, أؤمن إيماناً راسخاً, أن تحصين الوطن, أمر يستلزم رفع الأقنعة ومسح المكياج عن وجوه من يحاربون الوطن في قلبه, ويسرقون الأمل من قلوبنا, واللقمة من أيدينا, والأغنية من حناجرنا, والعفوية من انتمائنا إليه, ويسعون لتغريبنا عنه يوماً بعد يوم, لدرجة الإحساس أننا عراة وسط حشد من العيون الكارهة الشامتة.
كما يستلزم مقاومة ذبحنا كل ثانية, بإقناعنا أنه ليس بالإمكان أفضل مما كان, وأن علينا الرضا بالعيش تحت رحمة النهابين والكذابين وبائعي الوطن بالكيلو غرام, لأن الوطنية لا تعني ستر السماء بالعماء, فالوطن ليس خطاباً, ولا تربية عصافير وتنسيق ورود في برامج الصباح, ولا رحلة لرش الموت بالسكر, على ضفاف بحيرات الوهم, وتقزيم الخصوم وتعليق مشانقهم لفظياً على شاشات التلفزة الوطنية, بحجة رفع المعنويات وتحفيز الأمل, والحقيقة لا أمل إلا إن طهرنا الأرض من بُياع الأرض, لأنهم آباء الإرهاب!!.