أين شجرة الوطن يا أبي.. وطناً يحمل وطناً
ومازال يقطر وجده خفقة حبر، يغمس ريشتها من محبرة القلب، أوجاع تتعدد وتتكاثف لتفيض من سماوات اللغة، فوق أرض الكلام نصوصاً تمتح من شعرية القلب الخالصة، ومن مجمر تأملات تبث فلسفتها وتأملاتها، علها تخيط جرح اللغة بأناقة، وتتطير إلى عمارات باذخة من القول الشعري، المفتوح الضفاف على ممكن اللغة، لكنه ممكن ما يستطيعه الجمال من الالتقاط لحيز الرؤيا وفضاءاتها الشاسعة ليؤنسن الأشياء وفرادتها الكونية، بحس إنساني عالٍ، لكنه غير مكتفٍ به، ليضايفه بتعبيرات الصور المفكرة، ومدى ما تخصبه في حقل الدلالة، لطالما كان العشق سادنه كطيف وجودي إنساني جمالي، تحضر هذه المكونات اللغوية والبنائية في كتاب الشاعر والأديب حسين عبد الكريم الموسوم بـ (أين شجرة الوطن يا أبي) بعد رحلة مديدة وتجربة باذخة مع الأجناس الإبداعية المختلفة، والمترعة بعلاماتها الفارقة على مستوى التجربة الجمالية، وانفتاحاتها الدلالية، لكنه في أوجاعه الشعرية يتجاوز إلى اصطلاح يختصه داخل النص وخارجه، موقعاً إيقاعات روحه ولغته، وهو المتخفف من تعيين أجناسي بعينه، ليفتح دالات النصوص على حقولها المشتهاة، في نصوص يتجاور فيها البوح وشعريته كما النثر والقصيد والتشكيل والغناء، في سعي إلى ما يحرز إشباعاً جمالياً، تكاد سلطة الرؤيا تدوّن مرئياتها، ومحكياتها، ليسفر أداءها عن نشيد متصل منفصل، نشيد الوطن في كليته والمضرج في ذوات الآخرين، وكيف تصبح ذاته الشاعرة في مراياها الصقيلة أبعد في مشهدياتها وما تجترحه على اللغة، إلى ما يفيض به زمن الرواية والدراما والسينما، ليتكثف ذلك في دراما اللغة والحدث، دراما القول الشعر- نثري، ليصطفي قارئه على لحظاته المموسقة العشق، والمتماهية مع أنوثة المكان، لكنها أنوثة اللغة، في مجازها: وطن.
«نشبع وطناً قبل أن نشبع خبزاً» تلك إحدى عنواناته، ومشهدياتها في استثمار الحيز السينمائي/ الحواري، ليفيء إلى وطن يحمل وطناً ويسافر إلى كل وجدانه.
وتبلغ عنواناته ذروتها حينما يغدو تأليفها أشبه بكيمياء تواسي جرح اللغة والكلمات، لكنه “في الصورة الشعرية على باب قصيدة” يذهب كما “راما” لمجازات الأنثى، راما التي تقول لذاتها: «لماذا لا أكون كالصورة الشعرية التي يحاول الشاعر قطفها من سماء المخيلة، ثم تنأى وتبتعد… ألم تقل لي أيها الطالب الممنوع من دروسه عشقي ثناء: (راما) أو (رامة) بالألف أو التاء التي يخطر على بالها هواء الهاء اسم متموج بين الوهدة والتلة».
تتعدد في هذا السياق القصائد على باب الصور الشعرية من ثناء إلى راما إلى الجار الصيدلاني، وصولاً إلى الكاتب العاشق وأمكنته وحواراته وصمته وتأملاته، ليستولد الشاعر ثنائياته والموشحة, بفطريته المركبة، وتتصادى الأنا المبتهجة بالأمكنة وبالأسماء، لكأنها تعيد تأويل الهوية لتنجو بالجمال من فداحة النسيان، وللأزمنة فضاءاتها لكنها تتكثف بزمن المقاوم «زمن المقاوم أرشيف الكرامات السديدة/ سيجّت سيف ضوء الله بالرؤية الأكيدة/ ابتكرت جملاً للقداسات/ و واو جمع مفيدة/ تطل منها المعاني الكريمة وأرض عتيدة».
ولعل بوحه للقدس هو ما يجيء حينما يجهر بالقول: «لكن عيون النساء في فلسطين لا تخاف المنايا/ في ضلوع الرزايا الزمان الفطين كاهن كالسنين تلين وتقسو».
في مجازات الشاعر وانتقاءاته وما تشيده أسفاره إلى الرؤيا، ترجيع درامي يحتفي بالحب ليجعل منه سادناً، وهو الطاعن في الحب والحبر وأرض الشام، ليأخذنا إلى المختلف والمتعدد وإلى ينابيع تلك الرؤية كيف تتدفق كقصائد مشغولة بالأوجاع، وبالتقاط الفرح، التقاط ما يمكن وما لا يمكن البوح به.
هكذا يأخذنا صاحب «أين شجرة الوطن يا أبي»، إلى ما يشبه مدونة مترعة بثمار الكلام وموسقة المعاني وخمائر البلاغة الناجزة، في ضراوة تشكيل يفتح في اللغة لغة متجددة شأن الينابيع حينما تتفجر في قلب الجبال ذاهبة إلى بحر هناك، هو كمال طفولة الأسئلة.
أحمد علي هلال