الوحدة.. والزمن العروبي
د.صابر فلحوط
تؤكد صيرورة الحياة أن التاريخ ليس سجلاً للأحداث، وشاهداً عليها فحسب، إنما يكون في معظم الأحيان المعلم، والصانع، والموجه لها.
وفي حضرة الوحدة، الحدث القومي الأعظم، والأبهج في النصف الثاني من القرن العشرين، يسجل التاريخ القومي وقائع وانتصارات مازال عبقها طافحاً بالذكريات الجليلة والنبيلة في الدار العربية الواسعة.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فها هم ورثة “سلاطين بني عثمان” يحشدون، بل يخرقون، حرمة التراب الوطني العربي السوري، في الشمال. كما تتقاطع سيوف أمريكا، وإسرائيل، ونواطير النفط، فوق رأس سورية العربية منذ سبع سنوات دامية من الحرب الكونية على الفلذة الشمالية من الكبد القومي!!. وها هي سورية اليوم، كما سورية الأمس، متدرّعة بعروبتها وقوميتها، ومركزية عقيدتها، ورسوخ بوصلتها، فلسطين، تصمد، وتضحي، وتنتصر، وعمادها جيش عقائدي أسهم في صنع الوحدة بين سورية ومصر في الثاني والعشرين من شباط 1958 وخلق الزمن العروبي الجميل، كما يسهم اليوم بتضحياته الأسطورية في محاولة استعادة ذلك الألق العربي الذي صنع حضارة وبنى أمجاداً في سابق الزمان، ويتطلع لاستعادتها بكل الكبرياء والشموخ.. لقد كانت ولادة ثورة الضباط الأحرار في أرض الكنانة، بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر في 23 تموز 1952، شعاع الأمل المنطلق من سماء النيل صوب قاسيون، يلتقي بالمناضلين في سورية العروبة، حيث كان الشارع يموج بالجماهير الهاتفة للوحدة، والمستعدة لتقديم الأرواح من أجلها.. وقد استجاب حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان فارس الشارع الشعبي في سورية خلال الخمسينيات تطلعاً للوحدة، واستعداداً لدفع الثمن الأعلى والأغلى كرمى لعينيها، وثقة بعظيمها عبد الناصر، وشعبنا العربي في مصر العزيزة. وكما هي اليوم، فقد كانت سورية تصارع الوحوش وتقتلع أنيابها والأظفار، بعد إسقاطها موجة الانقلابات العسكرية التي بدأت بعيد الجلاء 1946، غداة أمسى الوطن مضرب المثل عالمياً في الاضطرابات والقلق والفوضى.. فقد استجابة لرغبة الشعب وقواه السياسية التقدمية والقومية نخبة من ضباط الجيش العربي السوري حيث قامت بلقاء الزعيم عبد الناصر في القاهرة وبحثت معه مسألة قيام الوحدة بين سورية ومصر مقدمة لوحدة الأمة العربية. وكان التوافق كاملاً في نهاية اللقاء مع الزعيم كما قام حزب البعث العربي الاشتراكي بأكرم تضحية من أجل الوحدة حيث أقدم على حل التنظيم في القطر العربي السوري، وانخرطت قيادته في الهيكل الأعلى لقيادة الجمهورية العربية المتحدة إلى جانب الرئيس عبد الناصر فأصبح نائب رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وعدد من الوزراء المركزيين في الطاقم القيادي لسفينة الوحدة !
وقد بارك شعبنا في سورية العربية، ومختلف ساحات النضال في الوطن الأكبر، هذا الحدث التاريخي الذي مثَّل حلم الأجيال، في دولة عربية مهابة الجانب مستقلة الإرادة راسخة الأقدام.. وقد تسامى “الزعيم” بقيادته دولة الوحدة ليصبح النجم الأممي الأبرز بعد أحداث جسام، ومواقف غاية في الجسارة والقوة، مثل تأميم قناة السويس، ومواجهة العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الصهيوني والتألق في حركة عدم الانحياز إلى جانب (نهرو/وتيتو وشو إن لاي وسوكارنو)، والتوجه شرقاً للتحصّن بالسلاح من الاتحاد السوفييتي والدول الحليفة له إضافة إلى الإنجازين الأكبرين وهما، السد العالي ومصانع الحديد والصلب، إضافة إلى الانحياز الأساسي للجماهير “الغلابة” عبر قوانين الإصلاح الزراعي، وتعزيز كرامتها تحت شعار: ((ارفع رأسك يا أخي)).
وقد واجهت الوحدة التي يحتفل بذكراها شعبنا هذه الأيام الخطرين الأكبرين: الصهيونية العنصرية، والرجعية النفطية الحليفة لها. كما استحوذت القضية المركزية للأمة العربية فلسطين على جلَّ اهتمام قيادة الوحدة، وزعيمها الذي وهبها جزءاً من دمه يوم كان مقاتلاً في الفلوجة، وكل دمه غداة أكمل العطاء منافحاً عنها، بعيد مؤتمر القمة العربية 28/9/1970، الذي كان مكرّساً للمصالحة بين فصائل المقاومة والنظام الأردني الذي حاول القضاء على المقاومة في أيلول الأسود 1970 .
في ذكرى الوحدة التي كان جيلها يملأ الساحات هاتفاً مع الشاعر العربي الأكبر سليمان العيسى (من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، رايات عبد الناصر) و(يوم أمشي في الأطلسي يميني دون حد وفي الخليج شمالي)، تتوجه جماهير الأمة العربية بالإكبار والإعجاب صوب دمشق حاضرة العروبة، وحامية عقيدتها، وحاملة راية انتصاراتها، واثقة أن التاريخ كالأنهار تبقى أمينة لمجراها مهما تكثّفت المصاعب والأهوال. تحية لروح زعيم الوحدة القائد العربي الاستثنائي جمال عبد الناصر، وتحية لمن أسعفه القدر والعمر ليشهد ميلاد الوحدة، والإسهام بمسيرتها بالدم أو الكلم أو الموقف. وكل التحايا لشعبنا العظيم، وجيشنا الباسل وقيادته مفولذة الأعصاب والمنتصرة بعبقرية وإبداع في معركتي السياسة والسلاح.