تلاقح السّرديّ والشّعريّ.. “أنا ذلك العصفورُ حلّق نحو نارِك”
العنوان هو أوّل العتبات التي يصلها حصانُ القارئ وقد تكون آخر صهيل لخيل المبدع الجامحة، يسطّره على بياضِ الخليقة، ويرمي مفتاحه في أعماق البئر، بئر النصوص. أشبه بتعويذة لابدّ من كشف مغاليقها حين ولوج شرفات وأرهاء القصائد. لذلك يحتاز على ميزة التّعالي والتّوازي “نصّ موازٍ” لمجمل المتن،أحياناً كعنواننا الحالي “وجهٌ لأنثى من زمان الوصل”. فإمّا تنغلق الممّرات أمام المتشوّف “لصّ القراءة” فيمعن الجوس في تفاصيل العتمة لتنفرج له الدوائر المتقاطعة، وهو يغزّ السّير تحت ضوء شمعته مستبطناً ما تجود أو تشهق به رئاتُ النّصوص، أو لا. عنواننا الحالي لا يوجّه خطابه لأنثى محدّدة إلّا ما ندر، لكنّنا نستطيع أن نرى فيه تجربة احتراق كلّ عاشق مع أنثاه الحقيقية أو المفترضة، كتجسيد لرمزيّة العشق الكبير. لذلك هو ليس عنواناً ذاتيّاً بهذا المعنى. وقد منحه الشّاعر سلطة معنويّة ولغويّة ومجازيّة كبيرة باقتباسه من قصيدة داخلية وتسييده عنواناً كلّيّاً للمجموعة. ليصبح بذلك البوّابة الأساسية لولوج عوالم النصوص. وقد رأينا كيف اختار الشاعر عناوين قصائده الدّاخليّة من متون نصوصها ،وربطها بخيوط خفيّة أو مرئيّة مع العنوان الكلّي التي لا تصعب رؤيتها واكتشاف امتزاجه في تفاصيلها حتى العمق بوحدة عضويّة لا فكاك منها “وحدة مشاعر رغم تنوّعها وتنافرها الظاهري أحياناً، ووحدة موضوع رغم عتامته أحياناً المتأتيّة من التحام التجربة الذاتية بالموضوعيّة وإغداقها صفات الخاصّ على العام” وهذا ما تتميّز به القصائد الوجدانيّة الغنائيّة ذات الموضوع الواحد التي تكتب عادة بمرحلة عمريّة معيّنة، والتي لم يكن همّها وربّما لا تستطيع تكثيف لغتها ولا اقتصاد مفرداتها بسببِ انجرافها أمام سيل التدفّق العشقي الهادر، ما يجعلها تغوصُ وتتمادى في الإطالة ضمن مناخاتٍ وجديّة هُياميّة عالية الحسّ والاحتراق مجازيّاً. هكذا يتزرّر العنوان في نقوش النّصوص وعجينها، لتغدو نصّاً كليّاً واحداً تحكمه الغنائية الواضحة والثنائيّات المتواشجة ببعضها البعض ككنايات لعوالم أخرى أشدّ اكتنازاً. وقد كثرت تشابيه الشاعر الواضحة أو التّمثيليّة وقلّت استعاراته وتقلّصت ضمائره السرديّة بأنا كبيرة واحدة، يقول: “واثق بالمقدّس، ليس المقدّس غير أناه القديمة، حين تهاوى أمام الطّبيعة”.
السّرد في القصيدة
يُقال أنّ السّرديّة تتحكّم بكلّ خطاب مهما كان جنسه وبما يتناسب وخصائصه، وقد رافقتْ القصيدة الغنائيّة ليس فقط مع سيطرة المذهب الرومانسي كما أصطُلح على تسميته، بل منذ أقدم العصور “الملحمة” مثلاً، كانت تضمّ بذور الكثير من الأجناس الأدبيّة التي توضّحتْ هويّتها فيما بعد. يقول النّاقد “جيرار جينيت”: (السّردي النّقي لا وجود له على مستوى الأثر الأدبي عامة، والجنس الأدبي خاصّة، معنى ذلك أن الصّيغ المعروفة في الأدب كالسّرد، الوصف، الحوار. يمكن أن توجد جنباً إلى جنب في أيّ أثر أدبي، أيّاً كان جنسه ونوعه، فخلوّ القصيدة الغنائيّة من السّرد يكاد يكون استثناءً). في الموروث الشعري العربي يحضرنا مثال: معلّقة “امرئ القيس” الذي يهيمن السّرد والحوار على نصفها أيّ حوالي “40” بيتاً منها، والوصف على نصفها الآخر، كما يقول د. “شجاع مسلم العاني”، ويؤكّد هذه المقولة أيضاً، منتصراً للعروبة ربّما “البستاني” مترجم “الإلياذة” بقوله أنّ الشعر العربي القديم عرف الشعر القصصي. والمجموعة الشعريّة الصّادرة عن الهيئة السوريّة للكتاب، لعام 2017 للشاعر “قحطان بيرقدار” بدورها تنحو هذا المنحى وتشهره واضحاً كهويّةٍ لأغلب متنها الممتدّ على مساحة “147” صفحة من القطع الصّغير، يقول الشّاعر: “لا تكترث بالوصف بل بالسّرد مقتفياً به صدى الأقمار”. ثمّة حبكة تشترك بصياغتها وتعقيد أحداثها لتصل إلى الذروة قوى خفيّة وظروف خارج السيطرة ودوافع تحرّك شّخصيّتي، الشاعر العاشق، والأنثى المعشوقة، التي قد تصبح بلحظة ما الطّبيعة العاصفة المؤنّثة أو تندغم بذاتِ الشاعر المؤسطرة، ليصبحا روحاً واحدة تتدخّل الظروف الكونية والتّخييليّة عموماً في مسار أحداث قصّتهما. ثمّة إشراقات لشخصيّة المبدع تلتمع في شرفات وفراغات القصائد، طاغيةً على مجمل الحياة النّفسيّة منتزعةً إيّاها من سياق الهموم الاجتماعيّة والتاريخيّة عموماً، تجعلنا نميل إلى تسميتها بشعريّة التجربة الذّاتيّة. ثمّ هذا القطع في القصيدة الغنائيّة، الذي يوهم بأنّ الربط بينهما تخييليّاً لا منطق ظاهري له، فيغدو الوجود ذاتاً كليّة تشارك الشاعر معاناته وتسطّر معه تراجيدياه المحكومة بحساسيّة عالية تسرح وتمرح متلذّذة باحتراقاتها الوجديّة ضمن الملعب الكوني، حيث تسير حركة الشعور في القصائد بخطوط متوازية، متصاعدة أو هابطة مرتكزة على “طبيعتين مائية باشلاريّة أوأنثوية يونغيّة” تتقاطع فيها وجوه الأنثى سلباً أو إيجاباً. وتتناوب أدوات السّرد للأحداث التي يواجهها الشّاعر أو يتخيّلها، عبر جملة أفقيّة سلسة، بعيداً عن التّلاعب الأسلوبي، أيّ الـ: “تكثيف اللّغوي أو الاقتصاد، أو التقديم والتّأخير الخ..” عبر تناصّات تمتح من سفر العشق الصوفي أو أشعار العشّاق التّاريخيّين أو النص القرآني تتناوب فيها الثّنائيات على تأجيج احتراقات العاشق “الوصف والسرد، الحركة والسكون، العتمة والضوء” لتتشكّل ملامح الصورة الشعرية السّاعية بدورها لاستحضار الرّمزي التّخييلي الذي يبدو كأنّه قطعٌ بنيويٌّ للسّياق، وهو ليس كذلك. هكذا تمتزج الذّات بالموضوع بقالب صوفي محكم ومناخات ملحميّة تذهب بالسرديّة الغنائيّة إلى حدّ الأسطرة، حيث تغيب التّخوم وتبحر ذات الشّاعر في عوالم الحيرة سليلة الأسئلة العالية، مستمرئة أهوالها في رحلة تيهٍ كونيّ لا يحدّه أفق، كمثل العشاق جميعاً وبالتحديد الصّوفيين منهم، وتكثر مفردات الوصل، والملاك والجحيم والسّجود والمحراب وفقدان البوصلة، والتّخييل والحيرة يقول الشّاعر: “لقد توحّدت الحقيقة والخيال” ويقول: “اليوم لا كشف ولا وصل ولا بصر تروّضه البصيرة، ويقول: (أكفكفُ دمعي بدمعك، وأوقدُ شمعي بشمعك، فما ثمّ من بعد فرقٌ، وإنّي خلاصة جمعك) ويقول: “غيوم وفي الصّحو يتّضحُ الغامض الأزليّ وتخفى الدقائق (…) غيوم لأمسك خيط الظّلام.. وأمضي إلى حيث يعظم ومضي إلى حيث يأخذني وجه كلّ نبيٍّ، وحيث تظلّ الكواكب ساطعة في الضّحى، هنا كل شيء صحا، واستعاد بصيرته فامّحى” ويقول: “خرجتُ من الكون ما عدتُ أسمع ما كنت أسمع من أغنيات هناك وراء السّديم مضيتُ (…) إلى اللانهاية أعبر، أين الطريق وأين الجهات؟.
ونهايةً، سأختتم قراءتي بهذه الصّورة الشعريّة الجميلة التي تلخّص مذهب الشاعر العاشق عموماً وقد احترقَ كعصفور بنار الأنوثة الأزليّ: “أنتِ في أيلولكِ الصّاحي كخمرٍ في دنان العاشقِ الصّوفي، أخفاها قروناً بين نهدي كاعبٍ تبكي على صدر الهلال”.
أوس أحمد أسعد