“مدرسة جنديسابور في الطب والترجمة وأثرها على العرب”
ما دور السريان في نقل العلوم إلى العرب؟ وما مدى تأثر السريانية باليونانية؟ وماذا قدم الأطباء السريان؟ وكيف أصبحت مدرسة “جنديسابور” ملتقى العالم.
كل هذه الإجابات نعرفها من خلال صفحات كتاب د. رحيم الشمخي “مدرسة جنديسابور في الطب والترجمة وأثرها على العرب” والذي اتبع فيه التسلسل التاريخي الزمني مركزاً على بعض الأعلام السريان، وعلى دور الخلفاء في نشر حركة الترجمة لاسيما العلوم الطبية، مما يشير إلى الحضور القوي للسريان في تاريخ العرب وثقافتهم.
تأثر السريانية باليونانية
بدأ الكاتب الشمخي من أهمية اللغة الآرامية التي كانت لغة الإمبراطورية الفارسية ولغة دولية، والأهم أن السريان تأثروا تأثراً كبيراً بالثقافة اليونانية في أعقاب غزو الاسكندر الأكبر لمنطقة الشرق الأدنى سنة 312 ق.م، ونتيجة تأثر السريان باليونان انتشرت الأديرة والمدارس التي اضطلعت بالنشاط العلمي للعلوم السريانية واليونانية، وكان تأثير الثقافة اليونانية قوياً في كتاباتهم من خلال تداخل المفردات اليونانية في السريانية حتى وصل الأمر إلى أن بعض الأدباء كان يؤلف باليونانية ثم تنقل إلى السريانية، ليتوقف الكاتب عند مدرسة الإسكندرية ملتقى الشرق والغرب. وعندما ظهرت المسيحية وفد المبشرون إلى مدرسة إنطاكية التي أسسها الكاهن لوسيان عام 290م، ثم أنشأ السريان مدارس قريبة من مجتمعاتهم وكنائسهم تدرس مبادئ الدين مع مبادئ الفلسفة والعلوم الأخرى.
دور السريان بالترجمة
ومع اتساع دولة الإسلام كان للناطقين بالسريانية فضل في يقظة العرب العامة ونهضتهم الفكرية في بغداد زمن العباسيين من 750م إلى 850م، إذ برزت حركة النقل إلى العربية عن الفارسية واليونانية والسريانية فلم تمض على تأسيس بغداد عقود قليلة حتى وجد العرب في متناولهم أهم مؤلفات أرسطو وشروح أفلاطون ومؤلفات جالينوس الطبية وغيرها.
ويعود هذا الازدهار إلى المساواة التي كانت سائدة بين الأديان وإلى شغف الخلفاء ورجال البلاط بالعلم واعتمادهم على السريان ليكونوا واسطة العقد في حركة الترجمة والطب والنقل وساعدهم على ذلك مرونة لغتهم وإحاطتها الشاملة بالعلوم، إضافة إلى تعمقهم بآداب اللغتين العربية واليونانية إذ مرت الترجمة في العالم العربي والإسلامي عبْر أربعة قرون من تاريخها بمراحل مختلفة من التطور ابتداء من القرن الأول الهجري حتى وصلت إلى قمتها في بغداد في القرن الرابع، ليصل إلى تأسيس مدرسة الرها.
الطب والسحر
وتطرق الكاتب إلى تاريخ الطب الذي كان قديماً متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه إلى السحر إذ كانت الصلة وثيقة بين الطب والسحر، وكان الساحر يداوي المرضى بسحره، وكذلك الكهان كانوا يعالجون بالسحر والأدعية وبالأدوية المجرية، ليصل إلى الطب في صدر الإسلام الذي لم يختلف عما كان عليه في الجاهلية إلا أن الرسول (ص) أقر بالمسؤولية الطبية، وذكر الباحث الحارث بن كلدة الثقفي الذي تعلم الطب في بلاد فارس في مدرسة”جنديسابور” وقد عاصر الرسول والخلفاء الراشدين واستمر إلى عصر معاوية بن أبي سفيان، وجمع كل مادار بينه وبين كسرى في كتاب المحاورة، ومن أقواله”دافع بالدواء ولا تشربه إلا من ضرورة فإنه لايصلح شيئاً إلا أفسد مثله” ليخلص الكاتب إلى أن الطب النبوي كان مجموعة من الأوامر والنواهي والإشارات والوصفات لأدوية معينة، واتبع الخلفاء الراشدون سنة الرسول ص، لكن الخليفة عمر بن الخطاب اهتم بصفة خاصة بالطب والتطبيب.
ييمارستان في دمشق
وفي العصر الأموي اهتم الأمويون بالتطبيب نتيجة امتداد ملكهم إلى ما بين سمرقند وأقاصي الأندلس وغدت دمشق العاصمة مركزاً للثقافة والعلم، واستفاد الأمويون من وجود المدارس السريانية، فاشتهر الطبيب السرياني يعقوب الرهاوي، وأمر الوليد بن عبد الملك عام 706م ببناء بيمارستان في دمشق.
الفكرة التي ركز عليها الكاتب أنه من خلال الطب نهضت حركة الترجمة لجميع الكتب الطبية اليونانية والفارسية والهندية واليونانية، وساهم الأطباء المسلمون بتصحيحها وتصنيفها وأضافوا إليها ابتكارات جديدة.
وبقيت مدرسة الإسكندرية ومدرسة إنطاكية والمدرسة المستنصرية، وأفرد الكاتب مساحة كبيرة لمدرسة جنديسابور التي أنشأها سابوربن أزدشير قرب سوسة، وتخصصت بالطب، وكانت اللغة السريانية هي لغة الدراسة في الطب والعلوم الطبيعية ولم يقتصر التعليم فيها على اليونانية والسريانية إذ أضيفت إليها العلوم الهندية. ودرس الأطباء العرب فيها مثل الحارث بن كلدة الثقفي وعيسى بن شهلاتا وسهل الكوسج.
الخلفاء والترجمة
ولم يقتصر دور مدرسة جند يسابور على تعلم الطب وإنما بالترجمة التي مرّت بمراحل ففي عصر الدولة الأموية تم التركيز على ترجمة العلوم الطبيعية كالطب والكيمياء، وعلى حركة التعريب للدواوين، بينما الترجمة في العصر العباسي كانت أكثر مرونة لانفتاح الخلفاء على الثقافات فاهتموا بترجمة العلوم الحكمية طب وهندسة وفلك، ويعد الخليفة (أبو جعفر المنصور) أول خليفة عباسي يقوم على رعاية حركة الترجمة فترجم في عهده الكتاب الهندي، وفي النجوم السند هند، والمجسطي في الفلك لبطليموس، وكتاب أصول الهندسة لإقليدس، ومن أهم النقلة الذين كان لهم دور إيجابي في ازدهار حركة الترجمة في بغداد أيام المنصور(يوحنا بن البطريق)، و(جورجيوس بن جبرائيل بن يختيشوع) وحينما تولى هارون الرشيد الخلافة أصبحت بغداد في عهده مركزاً لحركة تهدف إلى ترجمة المؤلفات العلمية اليونانية إلى العربية بتشجيع من الوزير(جعفر البرمكي) ثم تابع ( يحيى بن خالد البرمكي) فاشتهر يوحنا بن ماسويه الذي ولاه الرشيد لترجمة الكتب الطبية القديمة، وبلغت ذروة الترجمة في عهد المأمون حيث قام بترجمة الفلسفة الإلهية فلسفة أرسطو، واتسم عصره بأخذ الثقافة من مواردها الأصلية وشجع على ترجمة أمهات الكتب الأجنبية في مختلف اللغات في الفلسفة والطب والطبيعة والفلك والرياضة.
تضمن الكتاب تبويباً للمصادر والمراجع وقسم إلى ثلاثة فصول تفرعت لعدة أبحاث جاء ب120 صفحة من القطع المتوسط- صادر عن دار أمل الجديدة
ملده شويكاني