وحيداً إلّا من الفرح
شاعرٌ تنتابه حُمّى الكتابة بين لوثةٍ وأخرى، هو يعي أعراض مرضه تماماً. ولا يبالغ بأنّه أحبّ هذياناته إليه. ترفُ عرائش باهية، رافقه منذ بلوغه الأوّل واستوطنَ براري روحه. ليتدلّى من شرفات عينيه ياسميناً وأقماراً. نرجسيّة محبّبة عزّزتها نظراتُ الآخرين المختلسة لشروده، وثلّةٌ من الصّحف والدّوريّات الأدبيّة التي تنشر نصوصه باحترامٍ لائق. موهوب باستمطار البياض، بارعٌ في حلّ معادلة النّهود المتوثّبة وقراءة الانتحاءات العالية للجسد العاشق، وبكم رقصة فراشةٍ تقاس المسافة بين السرّة ومثلّث الوجود. يمارسُ فنّ الحبَّ كلّما استطاع إليه سبيلا دون أن تطرفَ له ريشةٌ، أو ينثلمَ له يراعٌ. يتمهّل كثيراً في تمشيط لحيته الصّهباء أمام المرآة المكسورة، كمن يصلّي لإلهٍ وثنيّ. للإنصاف هو يجيد مهناً أخرى تعيد إلى الذّاكرة مجدَ الكائن الهامشي: كتلميع الصّحون، وتبرير الغزوات اللّيليّة ذات المحصول الجيّد، وسقي الآمال اليابسة في تربة الجارة كلّ صباح. مفلسفاً ذلك، بأنّه النّشاطٌ الرّديفٌ الذي لابدّ منه ليكتمل نصّا المحو والكتابة في دفتر الماء. مع ذلك ليس معجباً بحياته أبداً، بل يحاول بين فينةٍ وأخرى وضع حدٍّ لها. علماً أنّ زوجته المكتنزة ذات الحاجبين المندهشين دوماً، لا توفّر فرصة في امتداح بعولته أمام نساء الحارة. وكيف أنّها لا يغمض لها جفن من كثرة تفخّذه لها. وعلى وقع همساتهنّ الماجنة الخفيّة، تراه ينفخُ صدره نافشاً ريشه كطاووس، مقلّباً بذاكرته المثل الشعبيّ الذي لطالما استروحه الكثيرون وناموا تحت ظلاله: “صيت غنى ولا صيت فقر”.
في تلك الليلة من تهتّكِ أشرعة الحلم وتعمّق هوّة الخراب، وبينما القمرُ يطمرُ جسده العليل بصوفِ الغيم، أضمر في نفسه تنفيذ الخطّة، مستثمراً مزاجه السّوداويّ وقد خيّم على روحه بعد وجبة أخبارٍ محليّة من العيار الثّقيل. موقناً أنّه سيقضي ليلته بصحبة كوابيس كثيرة، من شتّى الألوان والحجوم. والتي يعتقد جازماً، بأنّها ستضيف للحاجّ “فرويد” الكثير من ثآليل الفطنة. ذاب دهن الشّمعة إلى آخره، وأقعى ظلّه واهناً عند أرجل الطّاولة. انتهت نظراته من آخر تلاوة لأشياء الوجود التي سيغادرها بعد قليل، يتساءل ويجيب: “هكذا إذن؟ نعم، لامبرّر لحياتي، سأنتحر قبل انبلاج الفجر، مع آخر دفقة عواء يطلقها ذئبُ الوجود. ثمّ يتذكّر بقلق، كم كان جباناً في الإقدام على فعلته. كلّ يوم يتكرّر المشهد نفسه، يجلس إلى الطاولة، يقلّب مفكّرة أيّامه، يلقّم مسدسه، يتملّى به، متخيّلاً آثار البارود المنطلق من فوّهته وهي تتناثر على شكل لوحة سوداء تغلّف كامل وجهه.
أشفقَ على جسده من ارتطامٍ قاسٍ بالأرض بُعيد الإطلاق، سيفعلها الآن بلا أدنى تردّد، قبل أن يتعافى القمرُ من سُقمه. الذين سبقوه إلى اكتشاف البرزخ ليسوا أشجع منه بالضّرورة، تقدّم الجموعَ الغفيرةَ حاملاً نعشه الخفيف بعكّازين من ريحٍ ومطر، أغمضَ إحدى عينيه حالماً، وترك للأخرى حريّة الجوسِ في ملامحِ المشيّعين، بخبثٍ لم يعهده في نفسه من قبل، ما رآه أزعجه قليلاً وكاد يُثنيه. فالكائناتُ المسرنمةُ الدّبقة، مستعجلٍةٌ لإجراء الدّفن. بالكاد لمح طرف فستانها اللّيلكي المغناج مطيّراً نجومه الشاهقة في سماء الحضرة. تتقدّم بيفاعةِ زهرةٍ صوبه وتطبعُ قبلةً في الهواء. صرخ بلا صوت: “stop” لم يكن الاتفاق هكذا، الممثّلة خانت النّصّ والمخرج آخر همّه أن يرى اكتمال المشهد من عدمه. ووحدها الكاميرا مازالتْ تتجوّلُ بفراسة قطّةٍ مستذئبة، تنهمرُ بعدسةٍ لا ترحم على العشب الطري، تسحقه بكلّ غلٍّ الأحذية المغبرّة الزّاحفة من كلّ الجهات. حاول الاحتجاج بأن يُعاد المشهد ثانية. القبلة مكانها الصّحيح على الفمّ، لا في الهواء. فهي وحدها من سوف تبعثه حيّاً من جديد. لكنّه لم يجد من ينصتْ إليه، من يستمع لتقوّلات ميت؟!. تذكر أنّ دوره هو دور الشّاهد الصّامتِ حتّى النّهاية. أعاد الشّريطَ أكثر من مرّة، ليجزم أنّ الجميع قد تواطؤوا على قتله، لكن، فجأةَ، تبخّر كلّ شيء. لم ير أحدٌاً غيره في المكان، كان هو الجنازة والمشيّعين. أغلق عينيه بحٍّبٍّ كبير لهذا الوجود، ثمّ تناول مسدّسه المحشوّ بأفكار غامضةٍ، وجّه فوّهته إلى صدغه وضغطَ بثقة شاعر على الزّناد. تناثرت بذورُ الكلمات بشتّى الاتجاهات، خيّلَ إليه بأنّه سمع تكّةً خفيفةً على زجاج الجمجمة، لعثمةَ جدارٍ آيلٍ للسّقوط يتأفّفُ محتجّاً من ثقلِ النّعوات. ارتطام طائرٍ ما بغيمة كثيفة الرّيش. نظر باتجاه الصّوت، رأى دائرة صغيرة محفورة بحجم رأس دبّوس ينزّ من حوافها الضّوء. تلمّسها بأنامله فوجدها ساخنة. تساءل مندهشاً: ما أسهل الانتحار! حتّى أنّه لم يعد يحسّ باختراق القصيدة لصدغه، ولا بصوت اصطدام قبلةِ الممثّلة تدوّم في الفراغ ولا تصل. فقط ما شعر به وامتصّته جوارحُه بكاملِ الشّغف، تلك الرّائحة الشّذيّة، الطّاغية وهي تمسكُ بتلابيبِ المكان. تحسّسَ جبينه، رقبته، عينيه، ضفائرَ شمسٍ مشلوحةٍ على كتفيهِ. لم يكن ثمّة دم، لم يرَ أثراً لمسدّس، ولا لجسدٍ على شفا الاحتضار. ما رآه بوضوحٍ شديد، تلك الوردة تجرجر ظلال قصيدة عاثرة على خلفيّةٍ من بياض، ومحرمة نديّة ممهورة الطّرف بأحمر الشّفاه، تتوسّدها عبارة تقول: سأحرمك متعة السّفر وحيداً إلى الجحيم. وفي الأسفل إمضاء الجارة. تمعّن كثيراً في الوردة تتفتّحُ ببطء شديد على إيقاع عواء الذئب في داخله. شعر بالحيرة من كثافة المشهد. ارتدى قلنسوة الحبّ ومات من شدّة الفرح.
أوس أحمد أسعد