ثقافةصحيفة البعث

وثائقيات “عن قرب”.. من فمك أدينك

 

بثت قناة ال “ب ب س-عربي” في فقرتها “عن قرب” فيلما وثائقيا، هو في الحقيقة تحقيق استقصائي صحفي مصور للصحفية اليمنية العالمية “نوال المقحفي” والتي تعتبر واحدة من أشهر صانعات الأفلام الوثائقية، خصوصا بما يتعلق في الأحداث الساخنة التي تدور في العالم العربي، وما نتج عنها من دمار وقتل وتشريد وخراب، كما في الفيلم الوثائقي الذي أعدته وأخرجته حول الأوضاع الإنسانية المأساوية وضحايا الحصار والعدوان السعودي على اليمن، الفيلم الذي نال جائزة “التأثر المرموقة” التي تقدمها رابطة الإذاعات الدولية، بعد أن تم اختياره من بين عدد كبير من الأفلام والأعمال المختلفة، متجاوزا لها جميعا وفارضا نفسه ومضمونه على اللجنة المحكمة، التي اعتبرته من الأعمال المتميزة و الممتازة، رغم أنه ينتقد ويقدم بشكل لاذع وحاد، وعلى واحدة من كبرى شاشات دول الاستعمار في العالم –بريطانيا-، واحدة من الدول التي تبيد وطنا كاملا بشعبه وجغرافيته الخاصة وحضارته، بدعم من بريطانيا نفسها وبأدواتها، تلك الأدوات التي غيرت وجه الاستعمار وطبيعة الاستبداد الجديدة التي ترزح تحتها شعوب العالم العربي، محكومة بدمى!.
التحقيق المصور، أو الفيلم الذي يمكن اعتباره “شبه الوثائقي” باعتبار أن المعدة والمخرجة “المقحفي” اضطرت لإدخال مشاهد تمثيلية في الفيلم لأسباب أمنية حرصا على حياة الشهود الذين ظهروا بشكل تمثيلي في الفيلم، يذهب ببساطة ليدين بريطانيا نفسها، في كونها قامت ومن خلال إحدى شركاتها، ببيع معدات مراقبة الكترونية عالية التقنية، تتيح لمالكيها من الدول، الدخول إلى الحياة الشخصية لأي مواطن فيها، والاطلاع على كل ما يقوم به إن كان في هاتفه المحمول أو على وسائل التواصل الاجتماعي، وبمعنى أصح التجسس عليه حرفيا، مصادرة بذلك أي خصوصية ولو كانت محض افتراضية، وفي قائمة البلاد التي تم بيعها تلك المعدات في الشرق الأوسط، تجيء السعودية والإمارات وقطر!.
مملكة الخوف والعزلة والذبح الحلال، التي تحتفظ وبجدارة بأسوأ سجل في تاريخ حقوق الإنسان، باعتبارها ووفق تصنيفات عالمية موثوقة ودورية، تأتي في ذيل قائمة كوكب الأرض، عن الدول الأكثر إجحافا بحقوق الإنسان، أيضا تمتلك هذا النظام، وتستطيع من خلاله، جعل المثل القائل “الحيطان لها أذان” حقيقيا وليس فقط مجرد تعبير لغوي للتمثيل أو التشبيه، الإمارات أيضا من أوائل الدول التي اشترت هذا النظام الباهظ الثمن الذي تمتلكه بطبيعة الحال بريطانيا، وتملك أيضا النسخة التي تستطيع أن تجعل تلك البرامج بما فيها هي والدول المالكة لها بين يديها في أي وقت، ما يجعل الهوس العالمي الذي كان يحدث في أفلام السينما، عن عالم خاضع لمراقبة مركزية عالمية، مخترقة من خلال التكنولوجيا الإلكترونية المتطورة والمتجددة، كل الخصوصيات الشخصية، حتى تلك التي لا تعني إلا صاحبها، تجعل من هذا الهوس قائما وحقيقيا، وليس مجرد خيال كتّاب يشطحون بأفكار “الأكشن” التي يبرعون فيها.
يظهر الفيلم العديد من المقابلات مع أشخاص تعرضوا لاختراق خصوصيتهم من قبل الأنظمة الاستخباراتية لتلك الدول، وملاحقتهم وسجنهم وتعذيبهم، بعد التجسس على مفردات حياتهم الشخصية، حيث تنتقل الكاميرا سريعا بين السعودية والإمارات ومسقط ولندن والدنمارك، للذهاب أبعد ما يمكن في توصيف خطورة هذا الأمر على بريطانيا نفسها لاحقا، لتظهر ممالك ومشيخات الخليج العربي الأكثر استهلاكا لهذه البرامج بتحديثاتها الدائمة والمكلفة بشكل لا يصدق، أو في بريطانيا أيضا التي هي الإخطبوط المركزي المتحكم في أكبر تجسس عالمي على الشعوب يتم الاعتراف به، وهو يجري في الدول التي لا تنفك قنواتها التلفزيونية، المطالبة بالحريات الشخصية لأفراد بلدان أخرى، وهي كما قدمتها الصحفية اليمينية ومراسلة الهيئة البريطانية للإذاعة والتلفزيون “المقحفي” وبشكل وثائقي لا يرقى إليه شك، تحصي أنفاس مواطنيها وتعد عليهم تفاصيل حياتهم الشخصية، وذلك من خلال برامج تتيح فتح الكاميرا و”المايك” في الأجهزة الإلكترونية التي شاع استخدامها في كافة أنحاء العالم، وغيرها من التقنيات التي تتيح ما هو أبعد من ذلك، حتى في الذهاب إلى غرف النوم، دون أن يكون الشخص المستهدف يدرك ذلك! أو من خلال الدخول إلى الهاتف الشخصي وأخذ كل ما فيه من ملفات، والتعامل معها وفق ما تمليه الطبيعة الديكتاتورية لتلك البلدان التي ترفع لواء الحرية وهي تجهل ما تفعل.
لكن الأمر اللافت في الفيلم ليس فقط إدانته لبريطانيا بكونها تبيع أنظمة تجسس لأنظمة قمعية، بل في عرضه على القناة البريطانية الأولى في العالم، وفي المملكة المتحدة التي تعتبر ال “ب ب سي” شاشتها الوطنية، فكيف مرّ هذا على الرقابة اللندنية الصارمة؟ أم أن ذلك جزءاً من الخطة التي تستكمل فيها تلك الدولة صورتها (الإنسانية)، عن كونها تقدم جميع الآراء والحقائق حتى لو كانت تدينها؟ رغم أن القناة التي تظهر بكونها قناة حيادية في تقديمها الأخبار العالمية وقراءتها لها، باعتبارها كما تدعي غير ممولة حكوميا، وهي بذلك لا تخضع لإملاءات الممول، إلا أن الوقائع أثبتت عكس ذلك، خصوصا منذ اندلاع حريق الدمار العربي، إلا أنها تدرك تماما بدهاء ومكر ماذا تفعل، فهي بعرضها لهذا الفيلم وغيره من الأفلام للصحفية اليمنية نفسها، والتي تذهب نحو إدانة العديد من “حلفائها” الخليجيين بالقتل والتدمير، والمساهمة في شرذمة العالم العربي والتسريع في فت عضده، تقول للعالم: “نحن نقول الحقيقة وبكل تجرد-صدقوا كذبنا”، وهي في الحقيقة لا تملك إلا أن تدعي ذلك، أمام ثبوتيات الفيلم أو الأفلام الذي صنعتها “المقحفي” كما في الفيلم الآنف الذكر، لذا تعرضه عوضا عن منعه، طالما أن قنوات أخرى مستعدة لأن تعرض تلك الأفلام، وما هذا العرض أو النقد اللاذع والحاد للمملكة التي لا تغيب عنها الشمس كما يقال، بتاريخها الحافل بالاستعمار والنهب واللصوصية، إلا تتمة لخديعة الديمقراطية التي صار الأخوة يقتتلون تحت رايتها ويتذابحون كرمى عيونها التي لا يعرفون حتى لونها القاتم!.
تمّام علي بركات