الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

سَـــــــــهَرُ الــــــــــورد

د. نضال الصالح

القاعةُ مُترفةٌ بصمتٍ رهيف، وعلى كتف رابعة كانَ الكمانُ يزهو بمليكته التي تبدعه بروحها الفتنة. بأصابع يُسراها تزقو أوتاره القطا، وعلى قوسه يرمحُ كفّ يمينها، فينثالُ لحناً إثْرَ لحنٍ، ويهدلُ أغنيةً إثْرَ أغنية، ثمّ ما إنْ يستريح قليلاً إلى جوار قدّها الخيزران، بعد تصفيق مفتون باللحن والأغنية، حتى تعودَ القاعةُ إلى صمتها البليغ، وحتى تستعيد روحي الترتيلَ الذي كانت رابعة تحبّ: “وا رحمةً للعاشقينَ تكلّفوا، ستْرَ المحبّة والهوى فضّاحُ. بالسرّ إنْ باحوا تُباحُ دماؤهم، وكذا دماءُ العاشقينَ تُباحُ”.

قبل سنوات أربع، وفي أوّل عيد للحبّ، “الفالانتين”، بعد أنْ زُلزلتْ روحي زلزالها، وأخرجتْ أثقالها، وقالَ القلبُ ما لها، ثمّ حدّثتْ رابعةَ بأخبارها، أهديتُ رابعة وردةً باذخة الحُمرة، وقبل أن أرطن بالكلمتين: “هابّي فالانتين”، وكنتُ درّبتُ لساني على ذلك ساعةً من الليل، دفعتْ رابعةُ بشاهدة يُمناها إلى شفتيّ في إيماءة بالصمت، كأنّما تقولُ: “بل ما كانَ المقتولُ قال”، وكانت تقصدُ ما كانَ من أوّل البوح لها بأسرار القلب، ما كانَ السهرورديّ أنشدَ: “يا سميري ولم أقلْ يا سميري، قطّ إلا أجابَ عِشقٌ وحُبُّ. هلْ لداء الهوى سمعتَ دواءٌ، هل لميْتِ الغرام في الحبّ طبُّ؟”.

كانت رابعة تعشقُ السهرورديّ كما أنا صبٌّ به، الشيخ المقتول في قلعة حلب قبل نحو ألف سنة بعد أن ضاقَت به عمائمٌ زيْف، وغيرةٌ دمٌ. ولطالما كانت تستزيدني الحديثَ عنه في كلّ لقاء، ولطالما كنتُ أختمُ الحديثَ بنشيج لا يسمعه سواي: “أنا صورتُه يا رابعة، أورثني لوثةَ الجهر بالحقّ، حتى أصابتني من اللئام شدايدٌ، بتعبيره. اللئام أنفسهم الآن يا رابعة، اللئام الذين ما إنْ يختلف أحدٌ معهم، حتى يرموه بما ليسَ فيه ومنه، وحتى يستبيحوا دمه، كما حدثَ للشيخ شهاب الدين تماماً يا رابعة، تماماً”. ولطالما كنتُ أعدها بزيارتنا معاً إلى مقامه في حلب، في مدخل “بوابّة القصَب” من الجهة المؤدية إلى “الجديْدَة”. المقام الذي كنت أمضي إليه كلّ يوم قبلَ أن تتداعى الضارياتُ الظلامُ على حلب، فتفترس الحياةَ كلّها فيها، أو تكاد.

رابعةُ في السنة الأخيرة في المعهد العالي للموسيقى في دمشق. أسرتْ بي إلى فردوس روحها الرؤوم، وعرجتُ بها إلى فردوس الإشراق. وكنتُ، ودائماً، أقرعُ بأصابع الشغف على باب قلبها، فينفتح لقلبي عن بستانٍ من الدهشة البتول، ثمّ أتلو ما كنتُ كتبتُ لها ذاتَ إسراء: “الراءُ رؤيتي ورؤياي، والألفُ أيْكُ الأمل، والباءُ بسملةُ البهاء، والعينُ عصْفُ العُنّاب، والتاءُ توتُ التوق”، ثمّ أتبعه بالنداء: “يا رابعةُ، يا رابعة”، فتهمسُ: “يا سَهرَ الوردِ، يا سَهَر الورد”.

ذلك الصباح هتفتْ رابعة إليّ، ثم تلعثمت بالقول: “أصابعي متيبّسة منذ أمس.. أغويتُ الكمانَ غير مرة، فلم يستجب”، فضحكتُ قائلاً: “عيْنٌ يا رابعة، عيْن”، ثمّ تابعتُ: “عيني يا رابعة، عيني”. ذلكَ الصباح، وكان مضى غير شهر لم أستطع السفرَ فيها إلى دمشق، كتبتْ رابعةُ إليّ: “لو كانَ لي.. لو”، وكانت تقصدُ ما كانَ الشاعرُ الدمشقيّ القديمُ ابنُ عُنينُ قال: “عِبءُ الصُدودِ أخَفُّ مِن عِبءِ النَوى، لو كانَ لي في الحُبِّ أن أتخيَّرا”. ذلكَ الصباح، بعد رسالتها بقليل، مضتْ روحُ رابعةَ إلى العلياء، سقطتْ قذيفةٌ داخل المعهد، فاستسلمَ جسدها، جوارَ الكمَان، لإغفاءة الأبد.

هذا الصباح، في عيد الحبّ، كانَ ثمّة شابٌ في نحو الثلاثين من عُمره، تسمّيه رابعة “سهَر الورد”، يحملُ وردةً باذخةَ الحُمرة، يمضي نحو القاعة التي رأى رابعة فيها أوّل مرة، ثمّ ما تلبثُ قدماه أن تتسمّرا في المدخل. رابعةُ في صدر القاعة التي بدتْ مُترفةٌ بصمتٍ رهيف، وعلى كتفها كمانُها الذي تعشق. بأصابع يُسراها تزقو أوتاره القطا، وعلى قوسه يرمحُ كفّ يمينها، فينثالُ لحناً إثْرَ لحنٍ، ويهدلُ أغنيةً إثْرَ أغنية.