وأقطف صمت التراب الجميل.. حداثة التشكيل والرؤيا
بعد ديوانها الأول «فرس المجاز»، تستمر أفعال المغامرة الشعرية لدى الشاعرة فاتن مصاروة، بتجلياتها الأسلوبية والبنائية، في ديوانها الثاني «وأقطف صمت التراب الجميل» الصادر عن مكتبة كل شيء في حيفا 2017، تجليات ماهية الشعر وسفر أفعال تكتمل في مدونتها، لتشي بأصالة المغامرة، وبنزوعها إلى حداثة القول الشعري الذي يرتبط بسياقات الهوية وتأثيث المكان، وحواريات الذات الشاعرة التي تصطفي متخيلها النوعي، فبلاغة العنوان، وبنيته الموحية تحيل قارئها إلى أفعال الرؤيا في توازن محسوب لفضاءات القول الشعري، المترجم لصمت التراب، وما صمت التراب سوى لغة ثانية تفيض في متون قصائدها كاشفة بؤر المعنى، إذ المعنى خلاصة مكان –حيفا- سيتلامح كمكان منشود تعيد الشاعرة تأسيسه في ذاكرة الوعي الجمعي، بوصفه مكان العشق بلا ضفاف، ومسقط رأس الدهشة، ليكون حارس السيرة وإن تبدى خط أفقها، في قصائد محسوبة تنثال من مخيلة نضرة لتسكب مجازاتها مثل رعشة الضوء، حينما يبصر الكائنات وتبصره: دعنا نسكب في أعيننا حباً وجمالاً/ وأنا أتهجاكَ نجوماً وهلالاً/ أبصرني في عيونك نخيلاً/ وأراكَ تضيء سمائك فيَّ/ وتبصرها في عينيَّ صهيلاَ/ وتغازل نهري.
ولطالما كانت ثيمة العشق حاكمة على شعريات القلب، بل شعريات المكان وأطيافه في تواترات الأنا والآخر والعالم، ومعها يتوتر قوس الكلام لينبئنا بمدى خطه المداد من الغيبوبات الواعية، ليرسم وجهاً للقصيدة، لا يكتفي بصيغ الأفعال والضمائر، ودلالاتها النحوية/ البلاغية، في تشكيل المعنى، حسبه أنه ينهض على التقاط التفاصيل الموحية الجوهرية: صخب القهوة يلهو في فنجان الكلمات/ ويصب الأخبار وأحداث الساعة/ في هال اللحظات/ وعلى الطاولة الأخرى/ صحف وقصاصات/ يقرؤها ذاك العابر في صمتي/ ويفيض على رشفة نيسكافيه حضنت دلع الشقراء، لكنها وهي تتناص مع قصيدة نزار قباني «دعيني أصب لك الشاي/ أنتي خرافية الحسن هذا الصباح» تذهب محاورة حزنها وأوجاع منافيها، لتصطفي حيفا جنةً، في الدلالة القصية هنا، يعود المكان ليكون حامل الفكرة وحامل النشيد، والروح الغنائية التي وزعت المكان على الأرواح، لتبدو البلاد المستحيلة ممكنات لقصيدة مفتوحة «طافحة بالصرخات الماطرة/ صرخات أينعت ناياتها نوراً وعطراً/ في سماء الناصرة».
تشكيل بالرؤيا يعيد أوصال المكان، فهو حر بممكنات القصائد وبممكنات الحلم، ذلك الوطن السليب/ فلسطين كيف يعود في القصيدة صوتاً وصورة وسيرةً تذهب لاحتمالاتها في المواجهة وبثقافة العين والأذن، وإرث الشعر المتصل بالفضاء الثقافي العام، الذي يجعل من الشاعرة فاتن مصاروة تجيد الوقوف أمام مراياها لتتأمل حركة الأرواح، كيف تعبر خفيفة الوزن بهية الإيقاع، تماماً كما القصائد خارج الاحتفاء نبض من هناك يشعل أخضر اللغة، ليتوهج ويزدري النسيان، الصمت لغة ثانية في مقام تحولات القصائد، وتوقها لأبدية الحروف خط أفق متصل ببراءة القول الشعري، حينما يحملنا على مجازاته الوارفة: أنا من صرخات الياسمين المدمى/ يراود جرح الحقيقة صوتي/ وصمتي يجدل في الأفق غيماً/ مكممة بالصراخ الكفيف أناي/ لأعتقني من مراياي في أغنيات الجليل/ أنا من عرائس حيفا/ وبسمتها/ قمحها لوني المستحيل/ أمر على جرحنا في الحقول/ وأقطف صمت التراب الجميل.
شعرية معلّلة بالانفتاح الدلالي وبكثافات جمالية، تعيد صوغ الوطن وعياً وذاكرةً أولى، ذاكرة تأسيسية، لا تكتفي بتفجير اللغة، واستمطار الحزن الشفيف، وتميمة الانتظار الرجيم، «وبنأي الأرض عن كف الحريق»، لكن للوطن غير مقام يتواتر في نسيج القصائد حينما يتصادى في صوتها/ غنائياتها: «لأكتب اسمك يا بلادي عالشمس اللي ما بتغيب»، في جدلية العشق وحوامله الإنسانية والوطنية تذهب –مصاروة- إلى تراتيلها وما أراده قلب لغتها، من تدوين الحضور لا الغياب، وإعلاء الصوت وإشهار الشغف، في تأويل العشق وحسبه تأويلاً، تجوهره ومضاتها الكثيفة والمتناغمة الخفق، ممتثلةً لمطر رؤيتها ولحداثة هي أكثر من محض قول بل طريقة فيه كاشفة بنيةً وشكلاً، وبليغة الإشارات، بأداءاتها اللغوية في محكيها الشعري، صيرورات تتنكبها شعريتها لتشي أكثر ببلاغة النص، بلاغة روح تقاوم.
أحمد علي هلال