القابضون على الجمر
سلوى عباس
مشاعرُ متداخلة من الفرح والحزن يعيشها المرء وهو يتابع حديث أبناء الوطن حول الحرب، هؤلاء الناس الذين رغم النكبات التي حلّت بهم ظلوا متمسكين بأرضهم وبوجودهم، فما من منطقة في سورية إلا وطالتها وحشية الإرهاب وقسوة الحرب، وقدم أهلها الكثير من الشهداء، ومع ذلك مازال الأهالي يتحدّون عبثية الموت بتمسكهم بالحياة وترجمتها سلوكاً يجسّد ثقافة يتمثّلها الجميع، فيدهشوننا وهم يتحدثون أمام الكاميرا عن معاناتهم وإصرارهم على الصمود والتحدي، ليكونوا مثالاً للبطولة والتضحية، وقد ربطوا نبض قلوبهم على دقات نبض الوطن، لتمثل كل مدينة صورة مصغرة عن سورية.
لا يستطيع المرء أمام هذه الأيقونات في العطاء والتضحية أن يمسك نفسه عن البكاء، وهم يرحّبون بضيوفهم قابضين على وجعهم، مكفكفين دموعهم التي كانت تغافلهم، فيردعونها بتأكيدهم على انتمائهم لوطنهم وسوريّتهم، إنهم كشجر السنديان والسرو العالي يضجون بالحياة ويرسمون حبهم لوطنهم أقواس قزح على أرجوحة البذل والتضحية، وفي كل نكبة يثبتون أنه مهما جنت الريح لا تستطيع اقتلاعهم، لقناعتهم أن صباحاتهم أجمل مع وطن متجذر في أرواحهم، لا يستطيعون فكاك عهدهم معه.
هذه هي سورية وهؤلاء هم أبناؤها الذين بذلوا دماءهم معمدين بطهر الشهادة وهم على يقين أن هنالك من سيكمل الرسالة التي ارتقوا من أجلها، وهذا ما رأيناه ونراه من أطفال سورية على مدى سنوات الحرب السبع، فقد كانوا أكبر مما يُتوقع من أطفال لم يتجاوزوا حلم الشقاوة في ملاعبهم الخضراء، هؤلاء الأطفال الذين زرعوا شرايينهم مقاعد انتظار للّحظة التي يكبرون فيها ويثأرون لرفاقهم ضحايا تفجيرات نفّذها حاقدون بأطفال سلاحهم في الحياة أقلامهم وحقائبهم وأحلامهم التي رغم كل شيء مازالوا يطرحونها في خصب وطنهم لتتفتح سنبلة من حنطة الأمل، ويبنون مستقبلهم الذي يحلمون به ويرسمون الخطو إليه، يشتاقون إليه سليماً معافى ليجمعهم من شتاتهم ويسكب في أرواحهم عبقه الندي فيحيي نسغها.
لقد أعطى أطفال سورية بوعيهم، دروساً في المقاومة والصمود، أطفال يمثلون باقة من صبا الورد وتألق الوعود، وامتداداً من ضوء حين يميل القلب ليلّم نجومهم التي تساقطت على شرفة الروح، فتلتمع الأغاني على وقع خطوهم، وتتراقص الروح على صدى نداءاتهم، فيثب الحس إلى إعلان سؤدده المجيد ويفتح لهم قاعة الحب ليدخلوها من باب الغبطة والفرح الذي يليق بهم.
لقد تماهى الناس مع ما يحصل من قتل ودمار حتى أنهم أصبحوا يودّعون بعضهم عندما يخرجون من بيوتهم بإصرار على المقاومة والبقاء، يكتمون غصّة وجعهم ويعضّون على جراحهم، أناس، إيمانهم بالحياة أقوى من كل مسبّبات الموت التي يزرعونها في حياتهم، ولسان حالهم يقول كل الجبهات مفتوحة لمقاومتنا.. ولا نصر بلا شهادة.
لقد اعتاد أبناء سورية على مفردات الحرب وأبجدياتها التي لم تغير من جدول يومياتهم أي تفصيل، فهم ومنذ الأزل يمثلون الصدى لنداء أمهم سورية، وهاهو الصدى يردد بعد سبع سنوات من الحرب: إنما نكبر وحبك يرسمنا حلماً يشبه المستحيل، وأرواحنا مازالت مشرعة إليك، فلننطلق مغردين كطيور السنونو عندما يجن فصل الوجع.