كيف سيغير الذكاء الاصطناعي الحكومات والشركات العامة والخاصة؟
مارك نيكرهم
عد مستقبل القوى العاملة من أكبر القضايا التي تواجه الحكومات اليوم، ومن الواضح للجميع، أنّ الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات الكبيرة والروبوتات المتقدمة، تجعل من الممكن للآلات أن تضطلع بمهام كانت تتطلب في السابق إنساناً، والسؤال كيف ينبغي للحكومات والشركات الحكومية والخاصة أن تستعد استراتيجياً لهذا الاستحقاق، وكي يُكتب لها الازدهار في هذا العالم؟.
تختلف الآراء حول ما قد يحدث في المستقبل، وهناك آراء ترى أنّ حوالي نصف الوظائف في الاقتصادات المتقدمة ستُهجر، بينما يعكف آخرون على وصف كيف أنّ الآلات الذكية ستخلق فرص عمل، بما في ذلك فئات جديدة كلياً من الوظائف. حتى أنّ بعض الأشخاص تحدثوا عن عالم من الخير الوفير تعمل فيه وفقاً لشغفك، وبشروطك الخاصة.
يُمن الحيوي هنا أن تتفهم الحكومة والشرکات الآراء المتنوعة حول هذه المسألة، لأنها سوف تؤثر، ضمنياً أو صراحة، علی طریقة بناء قادة الأعمال للقوى العاملة في المستقبل، وفي حين أنّ الكثير سيتغير في السنوات المقبلة، لكن هذا التغيير سيكون المقدمة ومحور الاهتمام من الآن، فصاعداً، كما تتخذ الشركات اليوم قرارات مهمة جداً ستؤثر على قدرتها على المنافسة غداً وخلال العشرينيات من هذا القرن.
ولقد بدأت بعض الحكومات ومعظم الشركات تتحرك فعلاً لاكتساب قدرات جديدة، وفي استطلاع أجراه معهد آكسنتشر (Accenture) ونُشرت نتائجه في كانون الثاني الماضي، قال: إن 75% من بين 1,200 من كبار المدراء التنفيذيين في جميع أنحاء العالم يُسرّعون حالياً الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات الذكية، وأن 72% منهم يستجيبون لحتمية تنافسية، ويدركون من خلالها الحاجة إلى أدوات جديدة لمواكبة المنافسين، سواء بتحسين الإنتاجية أو إيجاد مصادر جديدة للنمو.
كما أنّ هناك شركات تحول نفسها إلى “مؤسسات ذكية”، حيث تكون القرارات فيها مرقمنة والقرارات معتمدة على البيانات والآلات وتؤدي العمليات الصعبة المادية منها والمعرفية.
إذاً، هناك أمور كثيرة على المحك في النقاش حول القطاع الحكومي والخاص والإنتاجية والوظائف، ويجب على الحكومات ومدراء المؤسسات الإنتاجية أن يفهموا النقاش، وأن يكونوا مستعدين لمعالجة أسئلة صعبة، مثل: ما نوع المهارات الجديدة التي نحتاجها؟ كيف ينبغي أن ننظم أنفسنا؟ كيف نعرّف الوظائف؟ كيف نقنع من يعملون معنا بحيث تعم الفائدة على الجميع؟.
ولقد توصلنا من خلال البحث إلى خمس مدارس فكرية في هذا النقاش، وسنعرضها مع عرض الموقف بشأنها.
الأول: المتشائمون بحدوث مستقبل مرير
الموقف: سيندلع صراع دارويني بين الإنسان والآلة وسوف تنتصر الآلات، وسوف يضطلع الذكاء الاصطناعي بمعظم المهام ذات المهارات العالية والمتوسطة، بينما تعمل الروبوتات على الأعمال البسيطة التي تتطلب قليلاً من المهارات، وبالنتيجة ستكون البطالة ضخمة، وتنخفض الأجور، ويحصل تفكك اقتصادي مروع، وسيترتب على انخفاض الدخل عواقب وخيمة في أماكن مثل الولايات المتحدة وأوروبا، حيث يشكل الاستهلاك 56% و69% من الناتج المحلي الإجمالي، على التوالي، ما سيتطلب من الحكومات زيادة مبالغ الدعم الاجتماعي المقدمة للعمال.
الثانية: الباحثون عن المدينة الفاضلة
الموقف: سوف تضطلع آلات ذكية بالمزيد من الأعمال، وستكون النتيجة هي تكديس ثروات لم يسبق لها مثيل، وليس تراجعاً اقتصادياً، وسيتطور الذكاء الاصطناعي وقوة الحوسبة في العقدين المقبلين للوصول إلى “التفرد”، وعندها ستصبح الآلات قادرة على محاكاة مجمل عمل الدماغ البشري، وسيجري “مسح” و”تحميل” للأدمغة البشرية إلى أجهزة حاسوب، وسوف تقوم مليارات العقول البشرية المنسوخة بمعظم العمل المعرفي، في حين ستقوم الروبوتات بالأعمال الصعبة. إلى جانب ذلك، سيكون ممكناً أن يتضاعف الناتج الاقتصادي كل ثلاثة أشهر، وقد يؤدي التفرد إلى عالم لا يتطلب إلا القليل من العمل البشري، يغطي فيه برنامج الدخل الأساسي العالمي الاحتياجات الأساسية، ويستخدم الناس مواهبهم لتحقيق مساع هادفة.
الثالث: المتفائلون بالتقنية
الموقف: سيكون العالم على موعد مع انفجار هائل في الإنتاجية، لكنه لم يظهر بعد في البيانات الرسمية، لأن الشركات لا تزال تتعلم كيف يمكن أن تساعدها التقنيات الذكية على تغيير طريقة عملها. عندما تحقق الشركات استفادة كاملة من التقنيات الذكية، سينتج عن القفزة في الإنتاجية مكافأة رقمية، ما يؤدي إلى تحقيق نمو اقتصادي وتحسينات في مستويات المعيشة لا تُحسب في الناتج المحلي الإجمالي، كالفائض الذي سيتوفر للمستهلك من المنتجات الأفضل والأرخص تكلفة ومن فوائد التطبيقات والمعلومات المجانية.
ومع ذلك، واستناداً إلى التوجهات الحالية، لن تكون المكافأة موزعة بالتساوي، وسوف تزول الكثير من الوظائف، لتجنب الآثار السلبية على الدخل والعمالة، ستكون هناك حاجة إلى استثمار في التعليم والتدريب إلى جانب الاستثمار في التقنية.
الرابع: المشككون بالإنتاجية
الموقف: على الرغم من قوة التقنيات الذكية، فإنّ أية مكاسب في مستويات الإنتاجية الوطنية ستكون منخفضة، إضافة إلى شيخوخة السكان وعدم المساواة في الدخل وتكلفة التعامل مع تغير المناخ، وستجد أنّ نمو الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة سيكون قريباً من الصفر، وفي نهاية المطاف، ليس بإمكان التقنية فعل الكثير باستثناء دعم النمو الراكد في الاقتصادات المتقدمة.
الخامس: المتفائلون الواقعيون
الموقف: سيكون بإمكان الرقمنة والآلات الذكية تحفيز مكاسب الإنتاجية التي تتفق مع التوجهات التقنية السابقة، وسوف تتقدم الإنتاجية سريعاً في قطاعات معينة وفي الشركات عالية الأداء، وستنشأ فرص عمل جديدة، ولكن التقنيات الذكية ربما تؤدي إلى تفاقم توجهات الماضي القريب التي ارتفع فيها الطلب على العمال ذوي المهارات العالية والمهارات المنخفضة، الذين يمكن بسهولة أتمتة وظائفهم، في حين انخفض الطلب على العمال ذوي المهارات المتوسطة، وفي ظل غياب حلول بسيطة، هناك حاجة إلى مزيد من البحوث في العلاقة الحقيقية بين الإنتاجية والعمالة والأجور للتوصل إلى الاستجابات الفعالة.
ثلاثة إجراءات لبلورة المستقبل
يبدو المستقبل ضبابياً حول ما قد يحصل خلال السنوات العشر المقبلة، وما نعرفه هو أنّه يجب على الحكومات ومدراء المؤسسات وقادة الأعمال أن يتخذوا خطوات الآن لتشكيل القوى العاملة لديهم بما يتناسب مع المؤسسة الذكية الناشئة، وتشير أبحاثنا وتجربتنا إلى ثلاث حتميات حاسمة، هي:
الأول: استخدم التقنية لتعزيز المهارات البشرية وإعادة ابتكار نماذج التشغيل، حيث ستشهد الشركات التي تنظر إلى أبعد من استبدال العمال وخفض التكاليف أرباحاً أكبر بكثير، وعلى سبيل المثال، يمكن لفئة جديدة من الروبوتات المتكيفة أن تعمل بأمان جنباً إلى جنب مع العمال، ويمكنها الاضطلاع بالأعمال الصعبة والمملة والمرهقة للعمال، وهذا النوع يتزايد في الاقتصاد الألماني، حيث تقدم تلك الروبوتات إنتاجية أفضل على خطوط الإنتاج وتحسن الجودة وتعطي العمال المزيد من الوقت للقيام بمهمة تقدم قيمة أعلى.
ويقدر الباحثون أنّ استخدام الروبوتات المتكيفة بهذه الطريقة بإمكانه أن يقلل بنسبة 25% من الوقت الذي يضيع في أعمال لا تضيف قيمة كبيرة، كما تظهر استطلاعات الموظفين أنّه لدى العمال آراء أكثر إيجابية حيال الروبوتات الجديدة، التي يرون فيها مساعدين مفيدين لهم، وبعيداً عن عالم التصنيع، تستخدم الشركات الذكاء الاصطناعي لإلغاء أعمال الموظفين الروتينية ومنحهم أدوات تحليلية جديدة لتحسين تجربة العملاء، واكتشاف إمكانيات جديدة للمنتجات والخدمات ونماذج الأعمال التي تدفع النمو.
وهنا لا يمكن للحكومات والشركات تحسين استثماراتها باستخدام التوصيفات الوظيفية والهياكل التنظيمية القديمة، ويجب على المسؤولين إعادة هيكلة الهياكل التنظيمية للمؤسسات وتوصيف الوظائف، وخاصة الوظائف التي سيقوم بها آلات وروبوتات، ومن ثم إعادة ضبط الوظائف بإضافة مهام جديدة أو إنشاء أدوار مختلفة تماماً مطلوبة لإدارة التقنيات الذكية.
الثاني: الموظفون شركاء في بناء المؤسسة الذكية، إذ أنه بهدف حقيق التوازن الصحيح بين الاستثمار في التقنيات الذكية والحفاظ على الأعمال التجارية القائمة، تحتاج الحكومات والشركات للحصول على مساعدة من موظفيها، ولقد اتضح أنّ استعداد الموظفين في الاقتصادات المتقدمة (وحتى حرصهم) على إتقان التقنيات الجديدة كان أكبر مما يعتقده أصحاب العمل ويستحق تقديراً أكبر، فهم يريدون تعلم مهارات جديدة، لأسباب ليس أقلها أهمية معرفتهم أنهم يحتاجونها للبقاء في وظائفه، وهذه الاستثمارات في كل من التقنية والتدريب ستساعد الشركات على الانتقال السلس إلى المؤسسة الذكية، وستتفوق الشركات التي تقوم بذلك على المنافسين لأنها ستطلق العنان لمواهب بشرية حيوية للنمو ولا قدرة للآلات على منافستها مثل (الإبداع والتعاطف والتواصل والقدرة على التكيف وحل المشاكل) ويقول ديفين فيدلر، مدير الأبحاث في معهد المستقبل (Institute of Future): “ستصبح المهارات البشرية الفريدة أكثر قيمة”.
وبالمحصلة، سيستمر النقاش حول التقنية والوظائف، ويجب على الحكومات وقادة الأعمال متابعة هذا النقاش، والمشاركة فيه أيضاً، ذلك أن هناك حاجة إلى المزيد من البحوث للتوصل لفهم كامل لآثار التقنيات الذكية على العمل، وفي هذه الأثناء، ستتمكن الشركات التي تكون مبادرة في استعدادها من وضع نفسها في موقف يمكنّها من الازدهار في هذا العصر الجديد والمثير.
كاتب متخصص في علم الإدارة