التراث العثماني في خدمة المشروع الأردوغاني
مهما تذرّع أردوغان بأمن بلاده القومي لتبرير تدخله العسكري الاحتلالي في سورية، فإن الحقيقة التي لاتستطيع ذريعته الواهية إخفاءها هي أن السلطان الجديد الغارق في أحلامه العثمانية، يستغل جملة الصراعات والتناقضات الإقليمية والدولية التي تسهّل إطلاق يده المجرمة.
وإذا أخذنا في الحسبان الدور الأساسي الذي لعبته تركيا بقيادته في الحرب الإرهابية الشرسة التي شُنّت على سورية منذ عام 2011، ومازالت مستمرة حتى الآن، واستمرارها، رغم تفاهماتها مع روسيا وإيران، في التملّص من التزاماتها، والتلاعب، وتوظيف إرهابييها في تنفيذ خططها العسكرية، والزجّ بجيشها لاحتلال أراضٍ سورية، فإن ذلك يعني، بكل بساطة، أن أردوغان لم يغيّر جلده، لكنه يتلوّن كالحرباء، كلما اقتضت الحاجة، لتمرير مشاريعه العدوانية. وإذا أضفنا إلى ذلك التطور الجديد في العلاقات الأمريكية التركية بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي، والمحادثات المزمع إجراؤها بين البلدين قريباً، يتأكد، بما لا يقبل الشك، أن الاستدارة التركية نحو روسيا تندرج في سياق البراغماتية السياسية، ولا تشير إلى أي تحوّل استراتيجي عميق، ذلك أن تركيا مازالت أطلسية الهوية، وتستند في تحقيق مصالحها الاستراتيجية إلى تموقعها الأطلسي.
انطلاقاً من هذا يمكن الرد على من يدعونا إلى إعادة قراءة تاريخ السلطنة العثمانية قراءة موضوعية، بعيدة عن التعسّف الإيديولوجي، ولاسيما التعسّف القومي العربي!، فالغريب في هذه الدعوة التي تُقر بأن السلطنة أصبحت من الماضي، وأن عودتها أمر مستحيل لا أحد يحمله على محمل الجد، الغريب أنها تمضي في تبييض صفحة السلطنة إلى حد القول: «إن سعي الحكام الأتراك اليوم إلى استعادة وإحياء التراث العثماني، واعتماده مظلة لطموحات الدولة التركية الحديثة ما هو إلا محاولة لخلق شيء جديد لا علاقة له بالماضي».
فكيف يصحّ أن ما يفعله أردوغان لا علاقة له بالماضي، وهو الذي يستغل الماضي العثماني لتحقيق أهدافه العدوانية التوسعية، بينما يلقى هذا الاستغلال صداه الإيجابي لدى قوى الإسلام السياسي التي تتعرض بلدانها للعدوان التركي الغاشم كما هو شأن سورية.
لا شك في أن تقييم المرحلة العثمانية يمكن أن يثير بعض الاختلافات، ولاسيما أن الحديث يدور عن سلطنة كانت مكوّنة من إثنيات وطوائف ومذاهب متعددة، وأن القومية التركية الحديثة هي ذاتها التي اختارت أن تنقلب على السلطنة، كما اختارت الهيمنة على غيرها من القوميات داخلها وتتريكها.
لكن أهمية قراءة الماضي هنا، والتوصّل إلى حقيقته مهما كانت ماهيتها، لا يغيّر شيئاً من واقع أن الدولة التركية الحديثة وريثة السلطنة العثمانية، منخرطة اليوم في المشروع المعادي للعرب والرامي إلى إعادة تقسيم دولهم وفق الاحتياجات الدولية والإقليمية الاستعمارية. وعندما نقرأ أن «الهدف من تقديم سردية واقعية للتراث العثماني هو تصحيح التاريخ أو استعادته، بل منعه من أن يقيّدك ويكبّلك، فما معنى أن ننشئ دولة عربية قومية وموحّدة مثلاً يكون هدفها النهائي محاربة الإيرانيين والأتراك.». عندما نقرأ هذا القول، فإننا نتساءل بكثير من الاستغراب: من الذي يحارب من؟. أليس الأتراك هم الذين يحاربوننا بلا هوادة. وهل مطلب الدولة القومية العربية الموحدة إلا لحماية العرب من المطامع الاستعمارية والصهيونية والتركية، وهي مطامع ليست أضغاث أحلام، بل واقع حي متجسّد فيما تتعرض له بلداننا العربية، والشواهد كثيرة من فلسطين إلى سورية إلى ليبيا… إلخ.
لا بأس من قراءة الماضي قراءة موضوعية وواقعية إذا أمكن ذلك. لكن هذه القراءة يصعب أن تتم في ظل تجاهل الحاضر. والحاضر يقول إن تركيا اليوم عدو لدود للعرب. ولا يمكن لنا قراءة ماضيها العثماني الذي تستغلّه إيديولوجياً لغزو بلداننا، قراءة أكاديمية صِرفاً وباردةً تُغمض عينيها تماماً عمّا يرتكبه الأتراك بحقنا من جرائم لا تُعد ولا تحصى.
محمد كنايسي