حاضر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.. ومستقبلها؟
عمر المقداد
قد يبدو غريباً الحديث عن خلافات تضرب عمق المصالح الأمريكية الإسرائيلية المشتركة، وخاصة بعد أن أقدمت الإدارة الأمريكية الحالية على فعل ما لم تفعله كل الإدارات السابقة، وهو نقل سفارتها إلى القدس، لكن تظهر بين الحين والآخر خلافات أمريكية إسرائيلية توحي وكأن جانباً من العلاقات الاستراتيجية بين الطرفين ليست على ما يرام.
ومع تأكيد قيادات الجانبين بأن ترابط المصالح المشتركة بينهما سيبقى لفترة طويلة زمنياً، إلا أن هذا لا يمنع من قول البعض أيضاً بأن جانباً طفيفاً من تلك المصالح يشهد حالة اشتباك، ودليله الخلافات التي تطفو إلى السطح بين الحين والآخر، وتظهر على شكل امتعاض من سلوك دبلوماسي غير لائق، واحتجاجات شعبية في الشارع، وتحليلات غاضبة في وسائل الإعلام، وتمرد على النسق في الأبحاث المتصلة بالمصالح الإسرائيلية.
وكي يكون الحديث عن تلك الخلافات أكثر واقعية، لابد من الاستئناس إلى مؤشرات نقيس على أساسها تلك التحولات في العلاقة والتي يمكن وصفها بأنها “هزات زلزالية خفيفة تضرب بين الحين والآخر الصفائح التكتونية التحتية التي تتموضع فوقها العلاقات الأمريكية الإسرائيلية” والسؤال المهم هنا هو: ما هي تلك المؤشرات والتحولات؟. وما تأثيرها على حاضر العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ومستقبلها؟.
في الإجابة على السؤال، سنقدم أربعة مؤشرات لافتة، وسنرفقها بتحولات على صلة بها، وهي:
المؤشر الأول: الغضب الأمريكي من السلوك الاستفزازي الصهيوني: والذي يعني أنه هناك حالة عدم رضا عند البعض على المستوى الشعبي والرسمي الأمريكي، وتتسع تلك الحالة مع العدوانية المتزايدة في السلوك الصهيوني والخطاب السياسي لقادة الكيان ضد الحليف الأمريكي، وهو سلوك تجاوز في بعض الحالات حد الأعراف الدبلوماسية المتعارف عليها.
إن أبرز تحول يمكن رصده هنا، هو استهتار قادة الكيان بالرأي العام والشعور الأميركي وفق ما عبّر عنه أحد رؤساء وزراء الكيان بقول مأثور هو: “يمكن تحريك أميركا بسهولة”، وهو قول منشور على مئات آلاف وملايين المدوّنات الأميركية على شبكة الإنترنت.
ويذكر كلنا خطاب رئيس وزراء إسرائيل أمام الكونغرس الأمريكي منذ سنتين ومن دون التنسيق مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وهو أمر خلق شعوراً عند ملايين الأمريكيين بالإهانة الصهيونية المتعمدة، وقد اعتبر الأمريكيون في حينه أن سلوك نتنياهو استفزاز وخروج عن الأعراف الدبلوماسية، خاصة وأن الإهانة تلك كانت حلقة في سلسلة من الإهانات التي تعمدّها حكّام الكيان الصهيوني ضد أركان إدارة أوباما في حينه.
كما يمكن أن نرصد ضمن هذا المؤشر، التدخل الإسرائيلي الواضح في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام /2012/ وانحياز نتنياهو إلى جانب المرشّح الجمهوري ميت رومني ضد الرئيس أوباما، وهو تدخل ترافق مع ضغط كبير مارسه اللوبي الصهيوني، لكن وبالرغم من ذلك، فقد انهالت المساعدات المالية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والدبلوماسية على الكيان الصهيوني، وهو أمر أغضب الأمريكيين مرتين، الأولى على التدخل، والثانية على المساعدات التي يدفعها دافع الضرائب الأمريكي، وهو هنا ملايين الأمريكيين.
وعلى مستوى الإعلام، فقد طفح الكيل عند بعض المعلّقين النافذين وذوي الحضور الكبير في الإعلام الأميركي، مثال ذلك، مقدم البرامج كريس ماثيوز، الإعلامي الذي هذا السلوك الإسرائيلي إلى طرح أسئلة محرجة وصادمة في برنامجه واسع الانتشار والمشاهدة “الكرة الصعبة/هارد بول”، والذي طرح في إحدى حلقاته سؤالاً على الجمهور حول الانتقادات التي وجهها نتنياهو إلى أوباما خلال كلمة له أمام الكونغرس، وكان السؤال هو: باستثناء سلوك قادة إسرائيل، من منكم يتذكّر نقداً قدمه مسؤول أجنبي زار الولايات المتحدة وانتقد فيه سياسة رئيس الدولة الأميركية أمام الكونغرس الأميركي وتمّ التصفيق له؟. ويتابع: باستثناء حكام إسرائيل، لا أحد فعل ذلك.
بالإضافة إلى هذا المثال، هناك أمثلة عديدة، تشير إلى استياء الإعلاميين الأمريكيين من صلافة حكام إسرائيل واللوبي الصهيوني، ومن سلوك الكونغرس الأميركي الذي يستقبل بحفاوة مسؤول دولة أجنبية /وهو نتنياهو/ والذي لم يتردد في توجيه الإهانة للرئيس الأمريكي ومعاونيه.
وبالانتقال إلى صدى هذا السلوك في مواقع التواصل الاجتماعي، فقد دارت حوارات لاهبة ونقد ساخن داخل مدونات الأمريكيين بين مؤيّد ومعارض لسياسات الكيان الصهيوني وصلافة مسؤوليه.
المؤشر الثاني: استياء قادة المؤسسة العسكرية الأمريكية من إخفاقات الأداء الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط، ودليل ذلك أنه بعد أن هزمت المقاومة الوطنية اللبنانية جيش الكيان الصهيوني، وأوقعت في صفوفه خسائر فادحة، وأرغمته على الفرار ليلاً خارج لبنان ومن دون توقيع أي اتفاق أمني مع الدولة اللبنانية عام 2000 فقد توالت الإخفاقات العسكرية والهزائم عام 2006 في لبنان، وأعوام 2008 و2009 و2012 و2014 في غزة، ولقد أعلن كبار القادة العسكريين الأميركيين خلال جلسات استماع عديدة داخل الكونغرس الأميركي عن امتعاض المؤسسة العسكرية الأميركية من سلوك الكيان الصهيوني المتهوّر، ووصل الأمر إلى درجة وصف هذا السلوك بالعبء على المصالح الإستراتيجية الأمريكية، وبالخطر القادم على الأمن العسكري الأمريكي وحلفائه في المنطقة.
وأتى إسقاط الجيش العربي السوري للطائرة العسكرية الإسرائيلية “إف 16” في 2018 ليقض مضاجع القادة العسكريين الأمريكيين ومصنعي السلاح، خاصة وأن الإسقاط قد جرى بصواريخ تقليدية وأصاب درة الصناعات الأمريكية.
هذا بالإضافة إلى امتعاض عسكري أمريكي من سلوك إسرائيلي متواصل يهدف إلى جر الولايات المتحدة إلى حرب غير محسوبة النتائج مع إيران، ناهيك عن الخسائر التي تصيب واشنطن في سورية والعراق والعديد من بؤر التوتر في المنطقة.
المؤشر الثالث: انقسام الرأي العام اليهودي داخل الولايات المتحدة تجاه سلوك حكام إسرائيلي وسياساتها، وهو مؤشر خطير جداً، ذلك أنه حتى سنوات قريبة، كان الكيان الصهيوني يحظى بدعم مطلق للأكثرية الساحقة من الجالية اليهودية سواء أكانوا جمهوريين أو ديمقراطيين أو غير حزبيين، لكن ومع ازدياد حماقات حكام إسرائيل التي أغضبت الداخل الأمريكي، فقد بدأ شرخ في جدار مصالح الطرفين يظهر للعلن، ويتسع مع مرور الوقت، وبدأ الحديث علناً عن افتراق في بعض وجهات النظر، وعن حالة عدم رضا، كانت بارزة عن اليهود الديمقراطيين أكثر من غيرهم، ومنهم جاهر علناً بالتذمر من صلافة الحكومات اليمنية الصهيونية.
ولعل التحول الذي شهدته منظمة “جاي ستريت” اليهودية الأمريكية دليل واضح على ذلك الشرخ، ذلك أنها وعلى الرغم من التزامها بأمن الكيان الصهيوني، إلا أنها باتت تدعو إلى حل سياسي قائم على مبدأ الدولتين، وهو مبدأ رفضه حكام الكيان الصهيوني.
وبالانتقال إلى “آيباك” اللوبي الصهيوني المؤثر في الحياة السياسية الأميركية، والمنظمة التي تدعم بشكل مطلق الكيان الصهيوني وحكوماته، فقد أعرب اللوبي أكثر من مرة عن استيائه من سلوك نتنياهو، واعتبر أنه يلحق الضرر بالعلاقات الأمريكية الصهيونية.
ولقد فسر المراقبون اضطرار أهم داعم لإسرائيل وهو منظمة “آيباك” إلى نقد حكام إسرائيل علناً، وفي سلوك نادراً ما يحدث، على أنه مؤشر على وجود ضرر أصاب العلاقة الأمريكية الإسرائيلية، وأن هذا الضرر ليس مجرد غيمة صيف عابرة كما يحاول البعض تصوير ذلك.
وقد عكست استطلاعات رأي نادرة تراجع النظرة الإيجابية الأمريكية تجاه الكيان الصهيوني داخل الولايات المتحدة، وكشف استطلاع أجرته جامعة ماريلاند بين اليهود الديمقراطيين أن نسبة لافتة منهم مستاءة من سلوك الحكام الصهاينة ومن سياسات إسرائيل، والمفارقة أن مجلّة “فورين بوليسي” المعروفة بميولها الصهيونية قد نشرت نتائج هذا الاستطلاع.
ولقد انعكس الأمر على المقالات على مواقع الانترنت، وتساءل “فيليب ويس” أحد مؤسسي موقع “عالم ويس/موندوويس” عن مسألة ولاء اليهود الأميركيين، وهل هي للولايات المتحدة أم للكيان الصهيوني، ولفت إلى أن القضية باتت قضية رأي عام، وأنها تجد من يطرحها حتى داخل جلسات الكونغرس.
ولعل أهم حالة عدم رضا يمكن رصدها بين صفوف اليهود الأميركيين هي استقالة “مارتن إنديك” من منصبه كرئيس لمكتب الشرق الأوسط في مؤسسة بروكنز، وهي المؤسسة التي تحتل المرتبة الأولى في العالم في قائمة مراكز “خزّانات الفكر/ثينك ثان” ومع أن الاستقالة مسألة مهمة، إلا أن ما ورد في كتاب الاستقالة هو المهم، حيث برّر أنديك استقالته بعدم استطاعته تبرير سياسات الحكومات الصهيونية، وبأنها أضحت تهدد مستقبل الكيان الصهيوني ومستقبل الجالية اليهودية في الولايات المتحدة.
والمفارقة أن وسائل الإعلام عكست خفايا تلك الاستقالة، وفي حوار تلفزيوني حاد جرى بين أنديك والإعلامي الصهيوني وولف بليتزر على شاشة قناة “سي إن إن” حيث استمات بليتزر في الدفاع عن حكام الكيان وخاصة نتنياهو، فقد خالفه أنديك الرأي، وخاصة حول سلوك نتنياهو والإهانة التي وجهها للرئيس أوباما في خطابه أمام الكونغرس.
كذلك، أشار إلى ذلك الشرخ، “جون جوديس” كبير المحرّرين في مجلة “الجمهورية الجديدة/نيو ريبابليك” الصحيفة المقرّبة من الحزب الديمقراطي والتي تتعاطف بشكل تام مع الكيان الصهيوني، وذلك في مقال نشره في مجلّة “الشؤون الخارجية/فورين أفيرز” التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية، وفيه اعتبر أن الإجماع عند الحزبين “الديمقراطي والجمهوري” تجاه الدعم المطلق للكيان الصهيوني يشهد هزات زلزالية وارتدادية وتراجع، ولفت إلى أن الحزب الديمقراطي الذي يعد تاريخياً من أنصار الكيان الصهيوني، بات العديد من أعضائه يطرحون أسئلة جديدة عن جدوى هذا الدعم ونتائجه، ولماذا لا يقبل حكام الكيان حل الدولتين؟، لكن، وبصرف النظر عن وجود هذا الانقسام والغضب المتنامي داخل صفوف اليهود الأمريكيين، فإن مجرّد طرح تلك الأسئلة يعد تطوّراً كبيراً ودلالة على أن علاقات الجانبين ليست على ما يرام.
المؤشر الرابع: ارتفاع حدة نقد الرأي الأميركي لممارسات الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، وخاصة بين طلاب الجامعات الأمريكية، ولقد برز تحول لافت وفق هذا المؤشر، تجلى في مقاطعة بعض الجامعات المؤسسات الأكاديمية الأمريكية للأساتذة الصهاينة، والدراسات التي يعدها أكاديميون صهاينة.
واللافت هنا، أن الكنيسة الإنجيلية البرسبسترية بدأت منذ سنوات القيام بعملية استثمار معاكسة لمحفظتها المالية، من خلال تصفية استثمارات لها في أصول شركات صهيونية أو دولية تتعامل مع المستوطنات الصهيونية في فلسطين والجولان المحتل، إضافة إلى أن الحملة الأمريكية لمقاطعة بعض المؤسسات الإسرائيلية والمعروفة اختصاراً بـ”بي دي إس” أي “مقاطعة وعدم استثمار ومعاقبة” بعض المؤسسات الإسرائيلية بدأت تعطي ثمارها داخل الجامعات والمؤسسات الإعلامية الأمريكية، ولم تفلح سطوة مؤسسات الصهيونية الأميركية على صنع القرار من تحجيم جهود الحملة أو تشتيت جهودها.
وهذا، بالإضافة إلى وجود مظاهر أخرى على ارتفاع حدة نقد الأمريكيين للسلوك الصهيوني وزيادة وعيهم تجاه هذه القضية، ومن تلك المظاهر، نجد كتب ومقالات غير مألوفة في المؤسسات الإعلامية والمنشورات الجامعية، ويصل بعضها حد اختلاف وجهات النظر بين الأمريكي والإسرائيلي، ونسف ما كان مألوفاً طيلة فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، ومثال ذلك، كتاب “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” للأستاذين الجامعيين جون ميرشهايمر وستيفن والت، والذي يدور حول تأثير اللوبي الصهيوني على صنع القرار الأمريكي، وكتاب “التاريخ الخفي لاستخدام الولايات المتحدة لإنشاء إسرائيل” للكاتبة والناشطة البريطانية “أليسون وير” رئيسة منظمة “لو كنّا نعرف” ورئيسة منظمة مجلس المصلحة الوطنية، وهي منظمة أمريكية تضم دبلوماسيين متقاعدين وإعلاميين وأساتذة جامعيين معنيون بالسياسة الخارجية الأمريكية، ولقد كشفت أليسون في كتابها عن وثائق وحقائق تبين دور صهاينة الولايات المتحدة في زجّ واشنطن في سياسات وحروب لا تخدم مصلحة الشعب الأميركي، وذلك منذ نشأة الكيان وحتى اليوم.
كما يمكن الإشارة إلى وصف شهير أطلقه بات بيوكانان، المرشّح السابق للرئاسة عن الحزب الجمهوري، واعتبر فيه أن الكونغرس الأمريكي هو أرض يحتلها اللوبي اليهودي وإسرائيل، وهو ليس الوحيد في هذا المجال، فهناك أيضاً، الاقتصادي بول كريغ روبرتس، الذي شغل منصب مساعد وزير المالية في عهد ريغان، والذي نشر على مدونته مقالات تنتقد المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني، واعتبر أنهم حمّلوا الخزينة الأميركية أعباء والتزامات مالية كان بالإمكان تفاديها، لولا اللوبي الصهيوني ومتطلّباته في السياسة الخارجية الأمريكية والحروب العبثية التي دفع الولايات المتحدة إلى خوضها لمصلحة الكيان وليس لمصلحة واشنطن.
هذا بالإضافة إلى التحول في نوعية مشاهدة الأمريكيين للمنتج السينمائي، إذا بدأت شريحة واسعة من الأمريكيين تشاهد أفلاماً تقدم معاناة الشعب الفلسطيني، وبعض تلك الأفلام من إخراج مخرجين فلسطينيين، إضافة إلى تظاهرات شعبية تندد بسلوك إسرائيل، ويافطات على وسائل النقل الأمريكية في نيويورك وواشنطن وباقي المدن تدين الاستيطان، وتدعو إلى وقف المساعدات الأميركية للكيان الصهيوني.
خلاصة القول: إنه ومع أن أشد المتفائلين لم يتوقع حدوث هذه التحولات التي تشير إلى تغيير ما في الرأي العام والوعي الأمريكي، إلا أن هذا لا يعني أن الصلة بين الطرفين قد انهارت، وإن ما أصابها هو شرخ واضح، وحالة من عدم الثقة تبرز بين الحين والآخر، وأن الحديث حاضراً ومستقبلا عن تضارب في المصالح بات أمراً متوقعاً، ومع أنه لم يصل إلى مستوى القطيعة، إلا أنه بات يشكّل محطّة غير مسبوقة في العلاقات بين الولايات المتحدة والكيان، ويمكن البناء عليها إذا ما وجد موقف فلسطيني وعربي وإقليمي حازم تجاه الكيان، وتجاه حقوق الشعب الفلسطيني.