“أهل الغرام” وبدعة حصار الدراما المحلية
يبدو الحديث عن مقاطعة القنوات العارضة للدراما السورية، والتي بالمناسبة لاتزال تعرض بعض أعمالها الجيدة، محققة أكبر نسبة مشاهدة على تلك الشاشات، هذا الحديث عن تلك المقاطعة، يبدو وكأنه حديث أحادي الجانب فيما يتعلق بالمسؤولية المباشرة للقائمين على هذا القطاع “الدرامي التلفزيوني المحلي” بنوعيهم: شركات إنتاج خاصة وأخرى رسمية، وبطريقة إدارتهم لتلك الشركات، وبطبيعة العديد من إنتاجهم لأعمال درامية محلية، لم ترق حتى للمشاهد المحلي المتعاطف معها سلفا، فما بالنا بالعربي، إلا ما ندر منها، وهكذا يظهر لنا وكأنه ثمة بدعة في بعض الجوانب الحقيقية لمفهوم المقاطعة، خصوصا وأن العديد من القنوات الفضائية الفعّالة المختصة في العالم العربي، تذهب نحو تحقيق مفهوم وصفها بكونها قنوات درامية، لا تتدخل في الشأن السياسي، الذي يعتبر حجة شركات الإنتاج لدينا للمقاطعة الدرامية في المقام الأول، لكننا في الحقيقة إذا نظرنا بتمعن، فسنرى أن العديد من الأعمال الدرامية السورية، لاتزال تعرض على أكثر الشاشات مقاطعة للدراما السورية، خصوصا تلك التي تنحو في تقديم فرجة بصرية لائقة، وحكاية يمكن وصفها بالجيدة في هذا النوع من الدراما التلفزيونية “اجتماعي- رومانسي”، دونما حاجة لأي من السفاسف التي قدمتها العديد من الأعمال الدرامية المحلية بحجة التسويق أيضا، فلا يظهر العري وكأنه هو الأساس الذي تقوم عليه الحكاية برمتها، كما تغيب حالة الخيانة الزوجية ومآلاتها عن العديد من حلقات السلسلة الدرامية “أهل الغرام” في جزئها الثالث، العمل الذي سيكون مثالنا على أن جودة العمل الدرامي، تكسر الحصار مهما كان قاسيا، بينما الرداءة، تلك التي يتفق الجميع على حلولها بين مفاصل أعمالنا الدرامية التلفزيونية عموما، خصوصا في السنين السبع العجاف المنصرمة، لم تستطع ذلك، تارة لأسباب تتعلق بالمضمون المباشر والفج الذي حملته، وتارة بسبب سوء العمل فنيا بشكل عام إن كان في النص أو الأداء أو الإخراج أيضا، فما كان من صُناع تلك الأعمال السيئة، إلا الترويج لنظرية المقاطعة والحصار وما إلى هنالك من توصيفات في ذات السياق.
هذا مثلا ما قدمته العودة الناضجة إلى مسلسل “أهل الغرام” الجزء الثالث،بخماسياته التي تختلف من كاتب إلى آخر، ومن مخرج إلى آخر، أما الحكاية التي نوردها كمثال عن تلك الجودة التي لا تستطيع أي محطة أن تقاطعها لجودتها أولا، فسنضربه من الخماسية “امرأة كالقمر” (ريم حنا- المثنى صبح) والتي تقدم حكاية سورية جميلة وممتعة، وفيها ما فيها من المضامين التي لا تستطيع إلا أن تكون وطنية، ولكن من خلال حضور خفيف لا فجاجة فيه، يمرّ بهدوء تاركا أثره على المتلقي المبهور بالأداء والشخصيات والحكاية نفسها، الحوار الرشيق القائم على نقلات متوائمة وروح النص.
“امرأة كالقمر” تحكي عن أربعيني عاش في مدريد منذ عشرينيات عمره، عاد في زيارة إلى بيت أخته التي تقطن وزوجها في بيروت بعد ما جرى في البلاد، خصوصا وأنها من العائلات الميسورة كما يقدمها العمل، وفي صدفة مدبرة من أخت الشاب جرير “سيف الشيخ نجيب” مع صديقتها طبيبة الأسنان زينة “سلافة معمار” السورية المقيمة في بيروت منذ مدة طويلة، بعد حكاية زواج انتهت بالطلاق، من “وائل” –رافي وهبة- وتبدأ الحكاية تروي حيوات تلك الشخصيات إضافة إلى كل من صهر جرير طريف –فادي صبيح- وأخته خولة –ديمة الجندي-والشخصية “اللاصقة” كما يقال للأحداث ساندرا، أدتها ببراعة –مرام علي، حكاية عن الحب الذي يجيء في الزمن الخطأ والوقت المتأخر، لعاشقين عاشا معا في نفس “الحارة” ودرسا معا ومشيا فوق ذات الأرصفة في دمشق، دون أن يلتقيا ولا مرة، وعندما تعمل الأخت على جعله يُغرم بالفتاة الصبية الفتية والجميلة ساندرا، يحدث أن يقع في حب خالتها زينة، التي هي رفيقة الماضي الغائر في الذاكرة، فهي عند العاشق العائد من الغربة بعد العديد من المغامرات العاطفية، المرأة التي شعر فجأة أنها ملأت روحه، وحققت لديه ذاك التوازن الكلي بين نداء قلبه وفكره، حيت اتفقا معا هذه المرة لصالح الحب، لكن هذا الحب تنتصر عليه عاطفة الأمومة لدى زينة التي يظهر زوجها فجأة ويهددها بكونه لا يمانع زواجها، لكنه سيأخذ الابن في حال حدث ذلك، فتهجر زينة المكان مع ولدها وقلبها المكسور الخاطر.
أحداث سريعة وذرى محكمة السبك ورشيقة تتالى في العمل إلى جانب الحكاية الرئيس، بدءا من اكتشاف جرير لمشاعره تجاه زينة، ثم اكتشاف الأخت خيانة زوجها الذي لم يعد يحتملها، إلى عودة الزوج الذي طلق زينة وتركها وابنه منذ أعوام طويلة، بعد انتقام قامت به ساندرا من خالتها، التي شعرت أنها خانتها، رغم أن الأمر ليس على هذه الحالة، فساندرا التي تريد أن تؤمن الفيزا كارد من سوري مقيم في مدريد، لم تستطع لفت انتباهه، لا بجمالها وفتوتها، ولابطبيعة تفكيرها المنفتحة جدا، والتي ظنت أنها من خلالها ستنال قلبه، خصوصا وأنها تحيا بين بارات بيروت، مع صديقها الوحيد –إسماعيل مداح-، أما خالتها الناضجة الأربعينية الجميلة، ففيها كل ما يحلم ويحب جرير، الذي يعود شاعرا في لحظة يتغنى بطاولة العشاء التي أعدتها “زينة” مثلا،لكن سكرات الحب التي جمعت بينهما في مكان آخر غير دمشق، جعلتهما يرتادان أماكن قريبة الشبه من أماكن في دمشق، حيث يشعر جرير وزينة بقربهما منها وهما يتناجيان،وسط منظر طبيعي جميل، وكأنهما في الربوة، المرأة التي أحبها، جلبت في ألفتها وطنه الذي غاب عنه منذ عشرين عاما بعد قصة حب تراجيدية؛ زينة المطلقة الأربعينية تقدم الطبيعة الحقيقية للمرأة السورية، التي لا تنصرف عن مبادئها الأخلاقية مهما كانت المغريات قوية، وعندما يخيرها القدر بين قلبها وأمومتها، تختار أمومتها، كاسرة قلبها وقلب من أحبها، بعد أن كانا اتفقا على الزواج الذي يشبه إطلالة القمر، هو في مدريد وهي في بيروت، ويلتقيان في المناسبات والإجازات، وهكذا لا يضطر لترك عمله في إسبانية ولا تضطر هي لتغيير حياتها التي اعتادت عليها منذ سنوات طويلة.
العمل كما أسلفنا حقق شرط المتعة في تقديمه لحكاية تحضر فيها المفردات السورية الأصيلة، حتى في كلمات من المحكية المحلية، التي يعرفها الجميع، كـ “الدقونة”، رغم أن العمل كما قلنا تم تنفيذه في بيروت، إلا أنه لا يتكئ على جمال المدينة، ليبهر الأبصار، بل يأخذ منها ما يناسب القصة فقط.
الجزء الأول والثاني من العمل، تحققا في سورية، ونالا أيضا متابعة جماهيرية واسعة وعلى قنوات مختلفة التوجه والرأي، وفي الجزء الثالث أيضا تحقق هذا الشرط، فنجح العمل في أن يكون محط إعجاب العديد من القنوات، ومنها بطبيعة الحال، تلك التي يُحكى عن مقاطعتها للدراما المحلية، دون أن ينتبه صُناع عملنا المحليون، أن الواسطة لا تخلق كاتبا جيدا، والمحسوبية يستحيل لها أن تقدم ممثلا بارعا.
العمل الجيد والمسبوك بإحكام، لا يمكن أن يُقاطع، أما ذلك المسلوق بحجج واهية، لا يقتنع بها إلا كل من ختم الله على قلبه، فهذا لن يجد إلا محطات درجة ثالثة “نص كم” كما يقال، تتحكم بالسعر وحتى بالعمل وبالحكاية وبالممثل، وكأن العمل وأصحابه تحت أمرها، فهلا اتعظنا وعملنا بقلب حقيقي، على صناعة دراما تلفزيونية جيدة وممتعة، وبعيدة عن التسطيح والمباشرة الفجة، التي تجعل القنوات الفعّالة في العرض كما وصفناها، تجهد لكي تحصل عليها، فلا خيار أمامها إلا ذلك، أو بقيت بلا أعمال درامية سورية ذات سوية مميزة، تعرضها للجمهور، الذي تعود على حضور الدراما السورية في كل موسم رمضاني، أم نبقى نسوق الحجج والخطط التي تهدر الوقت والمال، في إنقاذ، ما لا يمكن إنقاذه إلا بجودة الصناعة، لا بدخولها معترك الفساد أيضا!.
تمّام علي بركات