أبعد من الغوطة..!!
ربما، ومع بعض الفروق الموضوعية، يمكن تشبيه المناخ الدولي الحالي، بدءاً من حركة الاتصالات الدولية المحمومة بين ماكرون وترامب، وبين ترامب وميركل، وغيرهم، وصولاً إلى الغبار المثار في أروقة مجلس الأمن الدولي وقاعة مجلس حقوق الإنسان بشأن “الغوطة”، بحركة الاتصالات الدولية والاجتماعات الأممية المتتالية التي سبقت “الإغارة” الأمريكية على العراق عام 2003، فكما كانت الحركة الدؤوبة حينها محاولة لتشكيل حلف دولي من جهة، وتصنيع إطار أخلاقي، من جهة أخرى، للحرب المقررة سلفاً ضد العراق بحجة أسلحة الدمار الشامل، فإن حركة اليوم تحاول أيضاً تشكيل حلف دولي جديد والتستّر برداء “الكيماوي” المصنوع و”الملف الإنساني” لسكان “الغوطة” للقيام بعدوان عسكري مباشر، بعد فشل الوكلاء في الحرب التي تخوضها واشنطن ضد سورية.
وإذا كانت كلمة السر الجامعة في الحالتين هي “الإمبراطورية الأمريكية” ومستلزمات بنائها وديمومتها، فإن وجه الخلاف بينهما يتمثّل بأن المطلوب من غزو العراق حينها كان بناء المشروع الإمبراطوري، الذي نقله المحافظون الجدد من أوراق مراكز “الثينك تانك” إلى بند أول على أجندة البيت الأبيض، في حين أن المطلوب من “الغوطة” اليوم أن تكون طريق إنقاذ هذا المشروع من المصير القاتم الذي بدأت علائمه تلوح في الأفق، وخاصة بعد التقدّم الميداني الكبير للجيش السوري على الأرض، وبعد إطلالة نوعية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعلن فيها، ولو بصيغة مضمرة، عن سقوط نظام الأحادية القطبية الحالي.
بهذا المعنى فإن معركة “الغوطة” تتجاوز في أبعادها المدلولات المباشرة لاستعادة الدولة السورية قطعة هامة ومؤثّرة من جغرافيتها، ليكون الحسم هنا عملية إسقاط مدوّية لورقة ضغط هامة قدّرت واشنطن لموقعها الحسّاس في خاصرة العاصمة السورية من جهة وكامتداد جغرافي لمستعمرة “التنف” المحتلة من جهة أخرى، أن تكون رافعة للمشروع الإمبراطوري من حيث قدرتها – مع نظيرتها شرق الفرات – في حال بقائها على وضعها الحالي على إنفاذ ما تضمنته وثيقة “عصابة الخمسة” التي وضعتها واشنطن ووقّعت عليها فرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن “بتقاسم نفوذ واقعي للجغرافيا السورية، وإنهاء فرص قيام دولة سورية موحّدة”، وبالتالي كسر محور المقاومة من قلبه، وتوجيه ضربة قوية للصعود الروسي نحو موقعه الطبيعي في قمة العالم الجديد.
وكما حصل في العراق عام 2003، وكشفت الوثائق بعدها، فإننا لا نستغرب أن تكون خطة الغزو الأمريكي لسورية جاهزة على طاولات “البنتاغون”، وهي، بالمقارنة مع ما سبق في العراق، ستلحظ استخدام جميع القوى المتاحة سواء كانت دولية أو “إسرائيلية” أو “إرهابية”، والذريعة جاهزة أيضاً، فمن يتذكّر قصة “الكعكة الصفراء” ومحاولة العراق شراءها من “النيجر”، والتي كانت قصة مفبركة بالكامل بعلم أطراف الإدارة الأمريكية حينها، يعلم أن هذه الإدارة لا ولن تعدم وسيلة لفبركة قصة جديدة “للكيماوي” في الغوطة الشرقية.
وبهذا الإطار تحديداً نفهم إصرار واشنطن على استمرار التحقيق عن بُعد في ادعاءات استخدام الكيماوي في سورية، فهذا “البُعد” أتاح لها حتى اللحظة تبرئة حليفتها تركيا من استخدام الكيماوي في عفرين، واتهام الحكومة السورية باستخدامه في الغوطة وغيرها دون الحاجة لإبراز أي دليل في الحالتين، وبالطبع فإن التخلي عن التحقيق الجاد، يتيح لواشنطن تجاوز شرعية القانون لصالح شرعة الغاب واستعمال سلاحها المتفوّق في غاراتها الإجرامية، لتصبح معاركها لأجل المشروع الإمبراطوري، كما حصل في العراق، مجرد عمليات قتل بربري سافر دون شرعيات قانونية أو أخلاقية يعتد بها.
بيد أن هناك فرقاً هاماً بين الحالتين السورية والعراقية، ففي حالة العراق كان البلد حينها معزولاً عربياً وإقليمياً ودولياً منذ قيامه بغزو الكويت، وكانت حجة الحرب على الإرهاب بعد جرح 11 أيلول الأمريكي تجعل من الصعب على أي طرف أن يقف في وجه مشروع إمبراطوري صاعد في حينها، فيما تقف سورية اليوم وسط حلف إقليمي ودولي تتصاعد خطواته ومقدراته وبثبات في وجه مشروع إمبراطوري أمريكي هابط، وإن ببطء، وهنا تحديداً تكمن مفصلية “الغوطة” وتتحدّد أبعاد معركتها الصعبة في هذه الظروف العالمية المعقدة.
أحمد حسن