ثقافةصحيفة البعث

من رعاش الذّاكرة.. الطفولة المهيضة الجناح

 

تتهاوى بكَ الذّاكرة إلى غياهب الماضي، تغوصُ في أوحاله حتى الرّكب، هنااااك في أعالي الطفولة وقنّها الموحش، حيث كانت ثقافة العنف، الخبز اليومي، “قضّوضة” الصّباحات المغمّسة بالقهرِ والأحلامِ المغدورة. تتمعّن بنصائح الآباء الحكيمة ـ أشباه الله على الأرض هل كانت حكيمة حقّاً؟!. هاتفاً بكاملِ طاقة الشّعر المخزون في أعماقكَ: أيّها القساة كـحجر الـ “باطوس” اللّعنة ما أجملكم!. فلتذهبوا ونصائحكم إلى أقصى الرّيح.
تستعيدُ الذّاكرةُ حضورَكم، بحبٍّ ورأفةٍ وأنتم ترصّعون أفواهكم بأشباه ابتسامات في لحظات الصفاء النّادر، تعبر سماء وجوهكم كغيوم المقدّس شباط. شاحذين تعاطفنا مع معاناتكم الطّويلة، كمحاولةٍ لتحميلنا أوزارها، نحن أطفالكم الأقلّ براءة وبرّاً ممّا تحلمون، أطفالكم المترفون بالمراراتٍ التي تشرّبتْ أعمارهم الهشّة، فاعوجّتْ أرواحهم باكراً، وعرّش الرّعبٍ بغزارةٍ تحت آباطهم. لم يكن لحضوركم الضّنين فعلَ حبوب المسكّن، في أويقات المساءات الكالحة، بل كان يزيدنا رهابٍاً على رهاب، حيث بانتظارنا جردة حساب الأمّ الرؤّوم التي جدولتْ دَينها معنا على دفعات، عبر تهديدنا المتواصل بكم. حتى ونحنُ نمضغ لقيمات عشائنا المتسارعة التي لا تلبث أن تحرن في حلوقنا رافضةً الهبوط إلى منتهاها، يا لثقافة الاستبداد والعنف، التي كنتم ضحيّتها أنتم أيضاً..ولكن..!.
كنّا نفتّش في ثنايا ابتساماتكم الغامضة المشدودة الأطراف عن فسحة مدحٍ أو إطراء، لكن دون جدوى. كلّ ما كنّا نحظى به من جواهر قصفكم العشوائي علينا وحولنا، تهكّماً من سلوكنا وأحلامنا ونصائحَ بائدة لم ترحم عبثَ طفولتنا وشغبها الجميل، فأيّ تصرّفٍ منّا، كان خاطئاً بحكم الضرورة في قاموس أعرافكم “النّبيلة”، بل ويستحقّ التّوبيخَ والعقاب، فلم نعد نعرف إن كان بإمكاننا يوماً ما، أن نفعل أيّ شيء سويٍّ، لدرجة أنّنا كنّا نطالبكم نحنُ الهادئون المهذّبون المستلبون، بالقصاص من أحلامنا غير المرئيّة، ونرجوكم حدّ البكاء،أن تعاقبوننا مسبقاً قبل الذهاب إلى النّوم كدفعةٍ أولى على الحساب، فتخيّلوا أيّها الآباااااء الرّحيمون أيّ ندوبٍ عميقة الغور تركتم، وكم هي جروحنا عصيّة على الاندمال بفضلكم. هل تعلمون حقّاً ذلك، هل راجعتم حساباتكم يوماً؟ وهل وهل..؟ أذكر ذات مرّة، أنّني ذهبتُ إلى بيت جدّي لأمّي في مشرق القرية بعد انتهاء الدّوام المدرسيّ، وبينما أنا أمنّي النفس بطعامٍ أحبّه من “زيتونٍ ولبنة وبيض وشاي حقيقي” قد أحظى به مع بعض الأخوال والخالات زملائي في المدرسة الابتدائيّة الوحيدة التي تضمّ كلّ الصّفوف، من الأوّل وحتى السّادس. قدمتْ أختي كرسولٍ من قبل ربّ البيت، ذي الحضور المفاجئ، بنظراتها المهدّدة المتوعّدة، متقمّصةً دوره “أليست كلّ فتاة بأبيها معجبة” وانهالتْ عليّ بشتى أنواع التّهديد الممنهج، أنا الذي أصغرها بعامٍ فقط، قائلةً: سيعاقبكَ البابا لتأخّركَ في القدوم إلى البيت. “بابا” مفردةٌ من مفردات التّمدّن التي عمّمتْ علينا لنتميّز عن بقيّة سكّان الضّيعة ونحن صغار. هذا البابا الطّويل العريض، الذي يأتى بفتراتٍ متباعدةٍ جدّاً، سيبقى عندنا لمدّة ثلاثة أيّام. يا لخيبتي الموجعة! تظاهرتُ بالتّماسك الشّديد، حتى منتصف الطريق إلى بيت جدّي لأبي في الجهة الغربية من القرية، ولكن للصّبر حدود، إذْ سرعان ما بدأتْ دموعي بالهطول مدرارةً، وبدا خيالُ يد أبي الضخمة يتراقصُ أمام عينيّ، ثمّ ينهال على جسدي الصّغير بالصّفع، لجرمٍ فظيع اقترفته، ولا أعلم ماهو.!. ولشدّة اندماجي بالمشهد، سقطتُ على الأرض والتوى معصمي منتفخاً بشكلٍ غريب.
يا لفرحتي! فرغم الألم والخوف الشّديدين اللذين احتلّا كياني كلّه، بدأتُ أحلم بالنّجاة من العقاب، وفعلاً أوقفتْ أختي حربها النّفسيّة التي كانت تشنّها عليّ طيلةَ الطريق بلا هوادة، وهذا أيضاً، مشفوعاً بعيوني المحمرّة من كثرة البكاء، ما نجّاني من عقاب صاحب البذلة الخضراء، الذي لم أذكر أنّني رأيته أكثر من مرّتين في طفولتي “السّعيدة” حتى الصّف الخامس. وبكلتا المرّتين كان حضوراً قاسي الملامح ومتوعّداً.
هكذا كان ظلّ الأبِ يخيّم فوق جسدكَ الضّئيل حتّى في غيابه، ضاغطاً بكلّ ثقلِه على أنفاسك، موجّهاً أصابعَ اتهامه صوبكَ، أنت المغفّل دوماً: (يا ولد: الوقتُ كالسّيف، إذا لم تقطعه، قطعكَ) فتهمسُ مرتعباً في قوقعتك اللّزجة أيّتها الأم الرّحيمة يا زوجته الموقرة لا أريد أن أقطع حتى قالب الجبنة بالسّكين، ولا أن يقطّعني أيّ شيء، حتى لو كان سهمَ “كيوبيد” أو شهقة مصقولة حدّ الضّوء من نهديّ “فينوس”. سأصادق هذا الوجود النّضر وأحبّه بنهمٍ وحسب. ألا يحقّ لي ذلك؟!: أغيثينا من هذا القضاء المبرم، نحتمي بأطرافِ ثوبكِ متوسّلين أن تردّي كثافة زوجك عن حوّاف شمسنا، لننمو قليلاً، وإذ يسمع همسنا يلتفتُ فجأة ليرانا، ليراكِ حينها فقط، يتعرّف على وجودك من خلالنا الذي لم يكن مرئيّاً بالنّسبة إليه، هاتفاً بنا بثقة أبٍ مقتدر: أيّها الأولاد، ما علّمتكم إلّا التّعبير عن آرائكم، فلماذا تهمسووون، فنثغو كحملان بألسنةٍ ليستْ لنا،وبصوتٍ يكاد أن لا يُسمع، نعم يا باباااااااا. والآن، وبعد كلّ هذي السّنين، ما الذي سنقوله لكم، وقد كبرنا الحدّ الذي يتطلّب منّا الرأفة والوقار، سنكتفي بالمسامحة، مع كامل الاحترام لنواياكم الصّادقة، ولكن، دعونا نسألكم سؤالاً واحداً، هل حقّاً علّمتمونا ذلك؟!.
وتبدأ من جديد سياط الحكمةِ الأبويّة بلسعِ أرواحنا، كأشدّ من سابقتها: (الضّربات التي لا تقصم الظهر تقوّيه) ولكن أيّها الآباء، ظهورنا غضّةٌ ولا تحتمّلُ الضّربات القاسية، وطفولتنا عرجاء لم تستقم خطاها بعد، فلماذا وكيف؟!. (لا تكبّر رأسك فتكسر، ولا تكن ليّناً فتعصر). (الحياة مجرّدُ فسحةٍ ضيّقة بين المطرقة والسندان) (طريقُ المستقبل معبّدٌ بالحصى والأشواك). هكذا تتساقط الفضائل التّربويّة منهمرةً على رؤوسنا لا كفراشاتِ الرّبيع، بل كالزّجاجٍ المتشظٍّي. ولكن أيّها الآباء الأجلّاء، لماذا كلّ أقوالكم سيوف وحصى ومطارق..و…. أصرخ متخماً من هلوسات الذاكرة ونزيفها.. كفى أيّها الهراء، لا أريد أبوّةً من أحد..!
أوس أحمد أسعد