اعتقال الحرب!؟
د. نهلة عيسى
أنا لست بوهيمية, وبنفس الوقت لم أكن يوماً بالمعنى المتوارث امرأة شرقية, أنا فقط أشبه بحفنة رمل هاربة من بين الأصابع المريضة بحب التملك, أهيم على وجهي في وادي الحياة, وأنبش الأرض والوجوه بأظافري بحثاً عن معرفة, وعن نبع اليقين, الذي لطالما توهمت الوصول إليه, ثم ألفيت نفسي في بحر من الكوابيس والأقنعة, وآلهة من تمر, وهشاشة كل الأشياء الجميلة, وظل الموت المتربص بنا بلا حق في تمييز أو استئناف!.
أنا لست بوهيمية, والألم عندي ليس هواية, ولا مكياجاً مسرحياً أمثل به دور الضحية, فأنا رغم كل الوجع ما زلت اشتعل جنوناً ورفضاً وغضباً وحلماً, ولكن ألمي الفائض عن الحاجة, والرافض ابتلاع الأقراص المنومة, كان نتيجة محتومة لسبع سنوات اعتقلتني فيها الحرب وأجبرتني على التفتيش الدائم عن حقيقة ما, يقين ما, منارة ما, أتمسك بها خشبة خلاص من بشاعة وكآبة وعبثية الأشياء حولنا, والعيش أرملة للفرح, لأنتشر حزناً شاسعاً على مساحة الوطن.
أنا لست بوهيمية ولا شرقية, والحرب التي تعتقلني أنهت زمن الطقوس, الياسمين, والموسيقى, والكتاب, والليل, وذاك التوق الغامض إلى أول فراشة طاردها القلب, وأول نجمة ناجتها العين, وأول أمنية احترقت, والحلم الذي أخاف أن يتحقق, لأنني أريده أن يظل حلماً كي لا أفقده ويستحيل خيبة, ولذلك، والأصفاد في يدي رسمت لنفسي يقيناً يتيح للحب أن يستمر بالتدفق مني, لأنني سأموت إن توقفت عن الحب, وهذا ما تريده الحرب, ولم يكن ممكناً أن أسمح للحرب أن تريد ما لا أريد.
وقررت أن أرتدي يقيني قميصاً مضاداً للرصاص, وغضبي مانعاً للخوف, وأن أربط علم الوطن على طرف قلمي ولساني وخطواتي, لتنهض حروفي وكلماتي وأقدامي من عرجها, ولتركض على السطور والطرق متحاملة على الوجع, ومتجاوزة كل قدرة على اللحاق بها، لترسم على بياض الورق وبياض القلوب, اسماً جليلاً, مهيباً, منيعاً على زبانية هولاكو وجنكيز خان, ومحاكم التفتيش, وعصياً على الهزيمة: الجيش العربي السوري.
وكان يقيني المرسوم (الجيش) هو من حطم الأصفاد وأتاح لي الهرب من قبضة الحرب وأنا في الخط الأول للحرب, لأنه كان الرد على زواريب الطائفية وأزقة المذهبية التي يحاول القتلة اقتيادنا إليها, وكان الشمس التي أكدت لي أن سلاح جيشنا جواباً لقسم بحماية الوطن في البر والبحر والجو والرب شهيد, واستجابة لنداء راية النجمتين, وترديداً لصدى صوت امرأة من ألف عام نادت: وامعتصماه, فرددت الجبال الصدى بعد ألف عام, واستجاب له الرجال!.
لست بوهيمية, ولكن يقيني المرسوم (الجيش) أصبح مقصد مشاوير فخري لرد أقل القليل من الجميل لرجال يذهبون إلى الموت, كي يخرج الموت من بلادنا, وأصبحت تلك المشاوير أغنيتي الفيروزية في صباحي توسلاً لدفء من القلب, وأصبحت الضوء الذي يغسل عن العين رماد الخيبات, ويغلفها بحرير الأمل, ويدفعني حين ألتقيه لنسيان الحرب, ولانتظار موعد مع الفرح قريب, للحديث عن النجوم والأزهار, وعن الأطفال, وعن شابة صغيرة كنتها, عادت للوطن لتعمر الوطن, فتهدم أمامها الوطن!!.
لست بوهيمية, ولكن يقيني جعلني بنتاً وأختاً وأماً وصديقة لكل الشهداء, الذين لم يعودوا أصدقاء أحد, رغم أن شهادتهم دليل على أنهم أصدقاء كل أحد فينا, والذين لن يقرأ أحد منا قصة حياتهم القصيرة الجليلة, رغم أنهم ميزان الوطن, والبداهة النقية وسط غابة من كلمات متقاطعة مسمومة, بات فيها فعل “أعارض” وبراءة الأطفال في العينين, مرادف لفعل “أذبح, أنهب, أبيع”!!.
لست بوهيمية, ولكن يقيني صيرني رفيقة الجنود في الجبهات, هؤلاء الذين رغم كل العناء, ومقارعة الموت كل لحظة على الجبهات, هم بشاشة وجه الوطن يضحك من عتم الليل, وألفة تصطاد النحل والضباع الشرسة, حيث الفداء جوهر هويتهم, وتحصين لغد الوطن من همجية عصر التتار الملعون, وحيث الإرهاب والقرصنة والقبح جوهر خصومهم.
لست بوهيمية, ولكنني أستمد الفرح من الرجال الذين باتوا موسوعة البلاد: أسماء السوريين, أسماء النبات, أسماء الأنهار, الأشجار, وعنوان كل حجر, ومواضع جذور الصبار, وحدود البحار, وحيث علي لصيق عمر, ومحمد بشارة يسوع, وحيث لا أحد يمن بالصبر على الوطن, وحيث هؤلاء الرجال في الغوطة أول أمس كرموني برفع علم الوطن, فشعرت أني أعتقل الحرب!؟.