ثورة 8 آذار والقرار الوطني المستقل
د. صابر فلحوط
أضمومة من الشباب المحصنين بعقيدة البعث العربي الاشتراكي، والمتطلعين الى وطن قومي، يجدد للأمة العربية رسالتها الخالدة، وألقها الذي كحل عيون الدنيا بمرور الفكر، والعبقرية، والكبرياء، هؤلاء هم الذين كانوا صخور الأساس في البناء الشامخ لثورة الحزب والشعب في الثامن من آذار عام 1963..
فلقد شهد شعبنا، وفي المقدمة نخبه الثقافية، وطلائعه العسكرية العقائدية، وجماهير عماله، وفلاحيه، ومثقفيه، فرحة عارمة ونكسة دامئة خلال سنوات أربع من عمره ما بين 1958 / 1961 ..
فقد كان قيام الجمهورية العربية المتحدة ” 1958 ” أعظم إنجازات الأمة في القرن العشرين.. كما كان الانتصار الأسود أفظع انتكاسة أدمت العيون والقلوب على امتداد الدار العربية الواسعة.
ففي أجواء جريمة الانفصال تحول البلد الى مزرعة للرجعية مسلوبة الإرادة، ومرتهنة القرار للسفارات الأجنبية التي تعين الحكومات وتتحكم بالقرارات الوطنية، في محاولة مفضوحة لإعادة الوطن الى رقعة الاستعمار بعدما حرره الأجداد والآباء بالثورة السورية الكبرى، والدم الغالي.
في هذه المشهدية ألقيت المسؤولية الأصعب والأثقل على كاهل نخبة من الرفاق الضباط الذين كانوا قد تعارفوا وتحالفوا عقائدياً رغم التفاوت في المراتب والرتب غداة كانوا في الجيش الثاني في الجمهورية العربية المتحدة في الإقليم الجنوبي. وكان في مقدمة هؤلاء الرفاق بل واسطة عقدهم، ، الزعيم الخالد حافظ الأسد الذي هيأ مع رفاقه الأشاوس التربة الأخصب لثورة آذار لتحقيق هدفين: الأول تكتيكي وهو تخليص الوطن من حكم ـ المزرعة ـ والمحاصصة، واقتسام مغانم السلطة دون تحمل مغارمها، والثاني إعادة الوحدة مع الشقيقة مصر على أسس،ودعائم راسخة، تستعصي على الهزات والزلازل، والمؤامرات، وكل ذلك في سبيل الهدف الاستراتيجي الأهم والأعظم، وهو وحدة الأمة العربية بطاقاتها وملايينها من المحيط إلى الخليج حيث الحلم القومي المنشود والموعود لجماهير شعبنا العروبي. واستطاعت ثورة آذار أن ترسخ أقدامها بقوة في التربة الوطنية التي كانت متعطشة للبعث فكراً، ونضالاً.. غير أن الثورة كانت ثقيلة الخطى على طريق أهدافها بسبب المعوقات التي اعترت مسيرتها، ويأتي في مطلع هذه العقوبات سرطان السلطة التي تسرب الى بعض مفاصلها الأمر الذي أحدث في جسدها، بعض الشطوب، والندوب التي صنعت التشظي النازف، مما قاد الى الانقسام بل الصدام الدامي بين فريقي قيادة الثورة حيث كان الانقسام بين يسارٍ ويمينٍ حيناً وثوري ورجعي حيناً آخر !!.. كما جاءت نكسة حزيران 1967 لتزيد الشروخ والجروح في الجسد الحزبي حتى تمكن القائد الخالد حافظ الأسد، ورفاقه الذين التفوا بصدق وإيمان حول منطلقاته وتطلعاته فكان التصحيح المجيد في السادس عشر من تشرين الثاني/1970/ بمثابة ميلاد جديد للحزب، وتجديد مبارك لخلاياه، وأعصابه ورؤاه، على مختلف المستويات.
فقد ترسخت مؤسسات دولة البعث التي ضمت تحت جوانحها كفاءات الوطن جميعاً. وكما كان التصحيح موعداً جديداً مع القدر لبناء الحزب، فقد كان منطلقاً للمنظمات الشعبية والنقابات المهنية حيث لم يبق مواطن أو شريحة في المجتمع إلا ولها تنظيمها، وانتخاباتها، وقراراتها التي تأخذ طريقها في حقل التشريع والقانون لبناء دولة المؤسسات في المجتمع المدني في دولة الأنموذج وطنياً، وقومياً…
وقد استطاع التصحيح، بعد تجاوز الاستعصاء الذي أصاب ثورة آذار الذي شهدته مرحلة، ماقبل النكسة، وبعدها، أن يحرق المراحل على الصعد الداخلية، والتشريعية والسياسية. فقد عاش الوطن ميلاد الجبهة الوطنية التقدمية التي مثلت الائتلاف الحزبي والسياسي، والتي أصبحت التجربة الفريدة في المنطقة، وربما في معظم دول العالم، حيث تم انتشال العمل الحزبي السياسي في سورية، ولأول مرة، من الدهاليز والأقبية السرية، الى العلن وتحت عين الشمس ليقود المركب السياسي بكل حرية والمسؤولية في الوطن .. كما أولت الثورة اهتماماً فائقاً بإعداد القوات المسلحة، وبجيشها العقائدي، ومنطلقاته الوطنية والقومية الذي كان ثاقب النظر، عبقري الاستطلاع في ميادين الصراع ومعرفة الأعداء، واختيار مؤامراتهم لإحباطها قبل اندلاع نارها.
وأذكر أن القدر قد أسعفني عام 1963، وفي حفل تخريج دورة البعث الأولى لضباط جيشنا البطل في الكلية الحربية في حمص حيث لخصت فهم جيشنا وشعبنا لحقيقة الرجعية النفطية وتحالفها مع العدو الصهيوني وتآمرها على ثورة آذار وحزبها العروبي فقلت:
( يابائع النفط صاروخاً يهددنا
ومدفعاً بلهيب الموت مختضبا)
(ليس العدو الذي بالنار واجهنا
لكن من وهبوه النار والحطبا)
(عدونا كل نذلٍ في مسيرتنا
بُرء من العرب لا أصلاً ولا نسبا)
ولعل أبرز إنجازات التصحيح في الإعداد للمعركة القومية ضد العدو الصهيوني هي التوجه الى مصر، وإقامة اتحاد الجمهوريات العربية الذي خاض جيشا سورية ومصر تحت علم هذا الاتحاد العروبي، أعظم إنجازات العرب في القرن العشرين وهو حرب تشرين التحريرة عام 1973، والتي جعلت العالم وبخاصة ـ الكبار ـ فيه ـ يبدأ بإعادة النظر بالمشروع الصهيوني من ألفه الى يائه.
لقد واجهت ثورة آذار، والتصحيح عنوانها الأرسخ جذراً والأشمخ فرعاً، عشرات المؤامرات التي أحبطتها بسبب عمق أسسها في تربة الجماهير، ولعل أبرزها وأخطرها، أولاً الحرب الظلامية التي شنها على الوطن و الثورة ـ إخوان الشياطين في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والثاني هو الحرب الكونية التي تحالف فيها ضد الوطن، الامبريالية الأمريكية، والصهيونية العالمية، والرجعية العربية النفطية الحاقدة مستخدمين الإسلام السياسي والإرهاب التكفيري الوهابي الذي تصدى له شعبنا العظيم وجيشنا العملاق ودحره نيابة عن البشرية جمعاء.
تحية لجيش آذار العقائدي، ولشهدائه ملح الأرض، الذين أينع دمهم حقول سنابل، وبساتين زهور، وقناديل ضياء، وسيوف كرامة. وتحية لرفاقنا أبطال آذار الذين كانوا الشهود العدول على فجره صباح الثامن منه والذين مازالوا أعلاماً مشعّة في سجل الشرف الأرفع للبعث والثورة، يمسكون بجمرها القدسي، يؤمنون بانتصار مبادئها في الوحدة، والحرية، والاشتراكية ولو كره الحاقدون..