عنب دوماني (1)
د. نضال الصالح
الغوطة: الكورة التي قصبتها دمشق. وهي كثيرة المياه نضرة الأشجار متجاوبة الأطيار مونقة الأزهار، ملتفة الأغصان خضرة الجنان.. كلها بساتين وقصور. تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها. ومياهها خارجة من تلك الجبال.. والغوطة كلها أنهار وأشجار متصلة، ولا تكاد الشمس تقع على أرضها لالتفاف شجرها واكتناف زهرها، وهي أنزه بلاد الله وأحسنها، قال أبو بكر الخوارزمي: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد سمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة، وقد رأيتها كلها وكان فضل الغوطة على الثلاث كفضل الأربع على غيرهن، كأنها الجنة صوّرت على وجه الأرض.
ثمّ لم يكد مهيار يطوي كتاب القزويني، “آثار البلاد وأخبار العباد”، الذي كان ينقل عنه، حتى مضى إلى كتاب ياقوت: “معجم البلدان”، فقرأ أنّ عيسى عليه السلام عندما أشرف من جبل البضيع، جبل الكسوة، على الغوطة، وما إنْ رآها، حتى قال: “إن يعجز الغنيّ أن يجمع بها كنزاً، فلن يعجز المسكين أن يشبع فيها خبزاً”، ثمّ لم يكد يتمّ آخر السطر من كتاب ثالث، “مسالك الأبصار في ممالك الأنصار”، أي قول العدويّ: “وسنة إحدى وسبع مئة للهجرة جاء جراد إلى دمشق لم يُسمع بمثله، ترك غالب الغوطة عصياً مجردة، ويبست أشجار لا تحصى”، حتى غادر المكتبة محاولاً إخفاء الدمع الذي اضطرب في عينيه، ومن دون أن يستأذن ميسون التي كانت ترافقه في رحلة بحثهما المشترك عن تاريخ الغوطة، والتي لم تكد تستدير إلى الوراء لتسأله عن كتاب القلانسي “تاريخ دمشق”، حتى تعوذت، وبسملت، ونادته بصوت ممطوط لا يسمعه سواها، وحتى عاد صدى الصوت إليها مدقعاً في صمته الذي لا يشبهه صمت.
وكانت ميسون، وقبل أن يباغتها غياب مهيار، تقرأ في الكتاب المطمئن بين راحتيها، الكتاب الأشهر للدميري: ولما اتصلت ميسون بنت بحدل بمعاوية، وكانت ذات جمال باهر، وحسن غامر، أعجب بها معاوية، وهيّأ لها قصراً مشرفاً على الغوطة، وزيّنه بأنواع الزخارف، ووضع فيه من أواني الفضة والذهب ما يضاهيه، ونقل إليه من الديباج الرومي الملوّن والموشّى ما هو لائق به، ثم أسكنها، مع وصائف لها، كأمثال الحور العين، فلبست يوماً أفخر ثيابها، وتزيّنت وتطيّبت بما أعدّ لها، من الحلي والجوهر، الذي لا يوجد مثله، ثم جلست في روشنها، وحولها الوصائف، فنظرت إلى الغوطة وأشجارها، وسمعت تجاوب الطير في أوكارها، وشمّت نسيم الأزهار وروائح الرياحين والنوّار، فتذكّرت نجداً، وحنّت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها، فبكت وتنهدت، فقالت لها بعض حظاياها: ما يبكيك وأنت في مُلك يضاهي مُلك بلقيس؟ فتنفست الصعداء، ثم أنشدت: لبيتٌ تخفق الأرواح فيه..
كانت ميسون أصرّت على كتابة بحث تاريخي عن الغوطة على الرغم من أنّ مهيار كان سبقها إلى تثبيت اسمه لدى أستاذ المقرّر، ولم يكن أمام الأستاذ سوى الاستجابة لطلبها لسبب تعرفه هي، كما يعرفه مجمل طلاب القسم وطالباته، هو إعجابه بها، ولعلّ قلبها يرقّ أخيراً له، فتوافق على… (يتبع).