“مخمل”.. حكاية القهر والحب والعطاء
حين سئلت صاحبة الرواية الفائزة بجائزة نجيب محفوظ: لم الحكاية بالذات، أجابت: “أنا بالحكاية أرسم خريطة العودة إلى وطني، إلى بيت هناك كان لي ذات وطن.. إلى بيت هناك سيكون لي ذات وطن”.
و”مخمل” ليست أية حكاية، بل هي سيرة نساء يعشن في فضاء خاص هو فضاء المخيمات الفلسطينية، والذي كثيراً ما كان مسرحاً لحكايات رواها العديد من الأدباء من غسان كنفاني في “أم سعد”، إلى رشاد أبو شاور في “العشاق”، وإلياس خوري في “باب الشمس”، وجميعها، إضافة إلى غيرها، روايات عرضت الحياة في شوارع المخيمات، وفي بيوتها، لكن “مخمل” تجاوزتها بأن غاصت في أعماقها، ونزعت ورقة التوت التي يتلطى خلفها الوعي الفلسطيني المقيم داخل جدران المخيمات.
هكذا تعرض حزامة حبايب حكاية بطلتها “حوّا” بكل ما في شخصيتها من متناقضات، من غنى بدأ بالظهور لديها مذ كانت في الثالثة عشرة من عمرها متحررة من عقدة مظهرها، عفوية، شجاعة، وقادرة على العطاء المجاني، إلى فقر علل وخدوش لعلها اكتسبتها بوراثة بدأت من الجدة التي لطالما وصفتها “حوّا” بالغولة، مروراً بأغلب شخصيات الرواية.
“حوّا” التي تعيش في مخيم البقعة في الأردن، هي ابنة لموسى ورابعة، موسى عامل البناء الذي لم يعرف لقسوته أي حد، ولا لقلة الأخلاق أو الفحش الذي عشش في كل خلية من خلاياه، فمارس على رابعة كل أنواع الاعتداء، وكان ما إن ينتهي منها حتى يتجاوزها إلى التحرش ببناته الثلاث، ما دفع الشقيقتين الأكبر إلى الزواج باكراً هرباً منه، لتبقى “حوّا” تحب مراد بائع الغاز من جهة، ومن جهة ثانية تحمل عبء فجور الوالد، وتتلقى الضرب عنها، وعن شقيقها الأصغر الذي لطالما وقفت بينه وبين أبيها عند كل عقوبة، وبعد أي خطأ يرتكبه، ولم تكن الأم بأحسن حال من الأب، أو أنها كانت هي الأخرى تفرغ حقدها وغضبها منه ومن الحياة القاسية على الأبناء، حتى لم يبق من سمة يمكن أن تصف البيت وسكانه سوى الكراهية المتبادلة بين جميع أفراد الأسرة، ولم تكن الجدة سوى قمة في ذلك، ما كان الدافع كي تطلق الحفيدة صفة الغولة على جدتها.
خارج المخيم ومن دمشق تأتي قمر إلى الأردن وقد سبقها صيتها كسيدة بارعة في الخياطة، وهكذا يصبح منزلها في “صويلح” مقصد الفتاة كي تتعلّم المهنة، وهناك سوف تتعلّم الخياطة والحياة بشكلها الآخر، تكتشف عالم الأقمشة بكل أنواعها، وتحب من بينها “المخمل”، وهو ذاته ما تعشقه الست قمر، المخمل بألوانه القاتمة، المخمل الخالص الخالي من كل زركشة، وإضافات، أو تطريز يفسد نعومة ملمسه، والدفء الذي يشيعه.
هل الحياة في المخيم بهذا السوء أو البشاعة التي خيمت على منزل العائلة، لا، فعلى العكس كانت شخصية “حوّا” صورة للأنثى في المكان، صابرة وقادرة على إبقاء شعلة الحياة متوقدة بكل وسيلة ممكنة، في بيت الخياطة أطلقت العنان لخيالها يحملها مع صوت فيروز بعيداً عن أجواء البؤس والشقاء، هناك تكتشف ذاتها وقدراتها، بينما تبرع الست قمر بتنسم الروائح من خلال الأقمشة بأنواعها وألوانها، فترى في بعضها نسائم أيار، وعبير الزنابق، والورد الجوري، وأوراق الشجر، حتى إنها كانت تشم من بعضها المطرز رائحة ترف ما، فيما تفوح من أقمشة النايلون رائحة البلاستيك، لتتفوق تلميذتها عليها بأن تشبه قماشاً أحضرته زبونة برائحة المجاري في المخيم وقت الظهيرة، والشمس في الذروة، ويجنح بها الخيال في وصف الروائح عندما أرغمتها الجدة على الزواج من نظمي اللحام الذي يعمل في سوق المخيم، وبالطبع لن يحيد الزوج عن قاعدة العائلة، فيمارس عليها العنف ذاته، وهكذا سيأتي أيلول 1970، ويدفع بغسان الفدائي كي يلجأ إلى منزل الست قمر ليغزل الحب خيوطه بين الاثنين، علاقة حب هي النقيض تماماً للأجواء التي أرختها الحرب في حينها، فأتاحت لكلاب الليل أن تنهش لحم الفدائيين، والتي انتشرت في الشوارع، ولم تجد من يهيل عليها التراب.
وعلى النقيض أيضاً ستجد “حوّا” القوة كي تعيد إحياء شعلة الحياة في قلبها، فتطلب الطلاق، وقد تجاوزت أربعينياتها، وتقع في حب “منير”، لكن الحياة تصر على ممارسة قسوتها، فيسبق مرض العريس يوم العرس، ولأن الحب وصمة عار على جبين العائلة وفي عرفها، لابد أن يتصدى لغسله رجالها، فتقتل “حوّا” برصاص شقيقها وابنها قيس.
طغت “حوّا” على الرواية بغناها الذي زادته لغة الرواية ثراء، حيث حضرت العامية في المواقف التي تحتاجها، لتأتي فصول الرواية محاكة بدقة حياكة الأقمشة التي تناثرت في المكان بكل تناقضاتها الجميلة والبشعة، والتي شكّلت عبرها فضاء روائياً جميلاً ومتماسكاً لا يسرد حال النساء الفلسطينيات في المخيمات فحسب، بل حال العديد سواهن ممن أنهكهن الضيم والقهر، لكنهن بقين قادرات على العطاء والحب، ودفع ضريبة هذا الحب.
“مخمل” هي الرواية الثالثة للكاتبة بعد: “قبل أن تنام الملائكة”، و”أصل الهوى”، بالإضافة إلى عدد من المجموعات الشعرية، ونشاطات أدبية تصر صاحبتها أن تكون المخيمات وفلسطين محور حكاياتها، ونوعاً من سلاح في وجه الاحتلال ومقاومة محاولاته التي لا تتوقف في الظهور بمظهر ابن الأرض، وابن البيئة، والاندماج في الحالة الثقافية القائمة، الأمر الذي دفعها للامتناع عن المشاركة في فعاليات مشتركة: “لا أستطيع أن أشاطر صوتي مع كاتبتين تعكسان صوت الاحتلال البغيض”.
بشرى الحكيم