نهــــر من نــــــور
سلوى عباس
كانت قد أسندت روحها إلى الحلم وراحت ترسم لمستقبلها ملامح من أمل وحب، لتبقى في حالة إزهار دائم حتى لو عبرت غيمة ما سماءها لا تعطيها اهتماماً وتستعيد ألقها وزهوة الحياة، إلى أن باغتها غربان الموت على حين حرب ضروس واختطفوا أحلامها وكل ما هو جميل في حياتها.. فجأة وجدت نفسها أسيرة جحيم لم تعرف كيف تواجهه، حاولت أن تكون قوية فتحافظ على صدع في روحها لئلا يستحيل هشيماً، وأن تمسك بقلبها تهدئ من اضطراباته قبل أن يذوب في صدرها، وتحاول أن تبقي عيناها مفتوحتين خوفاً من أن تغفو ولا تفيق، فقد حل بها إحساس باليتم وبالفراغ ونبتت الوحشة في أضلاعها سريعاً وتشابكت مرارتها عروقها، لكنها لم تستسلم بل راحت تفصل للوجوه المتغضنة بالقهر والألم وشاحاً من تحد للسراب المختبئ خلف غيوم الأمل، لتكون أقوى من كل العذابات والقيود التي كبلوها بها، وراحت مع شريكاتها بالمصير الأسود ترسم للحياة وجهاً آخر أكثر صلابة وقوة بعيداً عن الاستسلام للألم الذي سرت في روحها إيقاعات خطاه، وأوقظت قلقها همجيته الصامتة، فتثب من غفوة مربكة إلى صحو جريح من قدرها المطبق على قلبها بكل شراسته وسطوته ولهوه الأرعن بها.
هكذا كانت تلك السيدة السورية تتحدث بكل ثقة وإرادة عن تجربتها مع الخطف من قبل الغرابيب السود الذي حاولوا اختطاف وطنها، لكنه كان عصياً على حقدهم ومخططاتهم، فبقي جرحاً نازفاً تحمله في وجدانها وكانت هي وكثيرات غيرها من النساء السوريات عصيات عن أن يكسرهن العذاب الذي مارسوه عليهن فكن يخلقن من الضعف قوة ومن الموت يخلقن حياة، لأنهن يدافعن عن أسمى حالات الإنسانية وهو الوطن، وكانت تستحضر البطولات النسائية عبر التاريخ وتستمد من تجارب المقاومة والأبطال الذين مروا في التاريخ قوة، وانتبهت إلى الرسالة التي يجب عليها تقديمها في هذا الظرف الصعب، فأخذت تهتم بالأطفال المختطفين معهن وتدرسهم اللغات والرياضيات، ومع أن ما كانت تقوم به كان المختطفين يقابلونه بمزيد من التعذيب والقسوة، لكنها كانت تلمح في عيونهم هزيمتهم وانكسارهم أمام عنفوانها وصمودها ومقاومتها، وكان إيمانها بذاتها وبوطنها أقوى من كل إرهابهم ونالت حريتها لتعود إلى عملها الذي تحبه وتكمل رسالتها في الحياة.
أما أم الشهيد فقد رسمت لنا بملامحها الشامخة سياجاً من إحساس ورهبة بعظمة تضحياتها، حيث اختصرت النساء والأمهات وتحدت الموت بقدرتها على الصبر، وإيمانها أن الوطن غالٍ ويستحق منا الكثير، استمطرت نجومها على قلوب أبناء ناداهم الواجب فلبوا النداء، أم.. أومت أن يزهر الياسمين فأزهر، وألمحت للشمس أن تمدّ ضياءها فيهم فانداح نهر من النور.. تلك الأم أمسكت بأبنائها وقرأتهم ككتاب، فهدأت أرواحهم بين يديها وأسكنت فيهم السلام، لتكون أيقونة للأعياد، تحلّق في سماءات لا نعرفها، أمٌ استلت أرواحنا من رمادها وأشعلت فينا دفأها المدهش..
حالات كثيرة عاشتها المرأة السورية في هذه الحرب، فكانت الأم التي قدمت ابنها شهيداً، والزوجة التي فقدت زوجها وسندها ومعيل أولادها، والأخت التي باغتها الفقد وراح يجر طيفه على أدراج لم تقو على صعودها، والحبيبة التي اغتالت الحرب أحلامها، وفي هذه الحالات كلها كانت المرأة السورية امرأة من توت وياقوت ترمي ظلها الوردي في السهوب فينطلق عيد الأرض واحتفالات الأفق.