المحبة..!
حسن حميد
أذكر، وأنا في مطالع حياتي، كنتُ أبحث عن معين لي كي أقترب من أحلامي، فلم أجد سوى المحبة التي كانت منذ الأزل اليد النديّة المباركة لكل فعل، بل تكاد تكون هي السلال التي يحمل فيها المرء الماء الزلال من دون ظنٍّ أو هجس، وحين درست الكتب في الجامعة ذهبت إلى الفلسفة المهمومة بالأسئلة والمعاني، فوعيت أن الفلسفة هي ملح الحياة، وأن الإنسان يحتاج إلى أمور كثيرة لعلّ في صدارتها المحبة. والإنسان من دون المحبة لا تليق به هذه الصفة: إنسان! وفي المحبة والتقدير، والنيافة من دون شغف أو ضجيج أو تفاخر، وفي المحبة المناددة مع الآخر من دون تدبير ليل! ثم وعيت ذلك كله حين دخلت مدوّنات الآخرين وعرفت تجاربهم، فرأيت أن الحيل والأفخاخ والحفر المستورة والدروب الموصلة والتنافش والتفاخر الكذوبين، وعدم الاستواء في مقعد الحضور والجمال، سببها انعدام المحبة، لأن المحبة لا تقود إلا إلى النبل، ولا تهدف إلا إلى النبل، ولا تريد من خواتيم سوى النبل.
الآن، وقد مرّ قطار الحياة بمحطات كثيرة، وتوقف عند معانٍ كثيرة، أقول: إذا كان الكاتب أو الفنان أو صاحب التعبير خلواً من المحبة فليقل لنفسه، في ليل أو نهار، سراً أو جهراً، أنا كاتب أو فنان غرّرت بالآخرين، وأنا صاحب تعبير مطفأ، وليعي حقّاً أنه لن يكون حاضراً في ما أنتجه في عصره ولا في عصور قادمات، لأن المحبة هي من يكتب النص، ولأن المحبة هي التي توجد حضور الكاتب والفنان وصاحب التعبير، ومن دونها لا أدب ولا فنون ولا تعبير!.
خذوا أدباء نعرفهم مثل تشيخوف، وتسيفايغ، وإدغار آلان بو، وحمزاتوف، وطاغور، وماركيز، ونجيب محفوظ، ونزار قباني، كلّ هؤلاء كانوا أهل محبة في التعامل، والسلوك، والتلاقي والتصادي والنظر إلى الآخر في نصه وتجربته وإلى الشعوب والأوطان في قضاياها وأحلامها!.
المحبة هي وحدّها الحبر السري الذي يبقي النصوص ويحفظها في إناء الزمن، والمحبة وحدها هي تزين الكائن البشري بثوب لا تراه إلا القلوب النابضة بالحب، والمحبة وحدها هي التي تعبّد الدروب نحو المرتجى والمأمول والمحلوم في آن، ومن دونها تصير الحياة تحاربات، وتقولات، وتنافش يشبه تنافش الأشواك وتعاليها على نباتات الخفرة والأزاهير المحيّرة بجمالها، بل تصير مؤامرات وأفخاخاً من أجل طيّ الجميل والرهيف واللطيف والأهيف والبارق والشارق والممتلئ بالحضور وأسرار البقاء، ومن أجل تغييب النديّ والطريّ والسحريّ والداهش والخالب، بل من أجل تغييب الحياء المعرفي الذي هو أعلى درجات الحياء وفخامة الشر والاحتراس من اقتراف الأذيات!.
وخذوا أدباء وفنانين وأهل تعبير، كانوا أهل موهبة، ومقدرة إبداعية، ونشور عقلي، لكنهم لم يحقّقوا المكانة التي تليق بموهبتهم، وقدراتهم الإبداعية وعصفهم العقلي لأنهم ما كانوا أهل محبة، ولأنهم ما وعوا ثقافة المحبة ومهدوفيتها، ولم يذوقوا طعومها، ولم يحلّقوا في فضاءاتها، ولم يمشوا في دروبها! انظروا إلى الأيام، وهي تتقدم بسرعة عجيبة، كيف تطويهم وتنحيهم بيد الفطرة، أو قل بيد السحر الإنساني، خذوا كل الذين نظّروا للأذى، والتفوق، والعنصرية، والعنجهية، ومنهم ساسة، ومفكرون، وأدباء، وفنانون.. (وكانوا أهل موهبة، ومقدرة إبداعية، وعصف عقلي).. كيف أن يد المحبة لا تأخذ بما قالوا، ولا تشير إلى دروبهم، ولا تمسح الغبار الثقيل التي تكدّس فوق قولاتهم وصورهم وسلوكياتهم.
ترى، هل من درب آخر سوى المحبة.. يقود إلى النوم الهنيء ليلاً، ويبدي جمال شروق الشمس وهيبة غروبها، ويعطي المرء الإحساس بالجمال حين يرى الغيوم السابحات في السماء، ورهجة أقراص عباد الشمس في الأرض؟!.
Hasanhamid55@yahoo.com