سقوط المثقف العميل
ثمة سؤال مشروع يسأله الكثيرون، ولا سيما من بسطاء الناس، الذين يدركون حقيقة ما جرى، ويجري في سورية، بفطرتهم، أكثر مما يدركونها بالتفكير العقلي الذي يُفترض أنه أداة خاصة بالمثقفين والمفكرين. ومضمون السؤال هو: لماذا وقف بعض المثقفين السوريين المرموقين مع الحلف المعادي للدولة الوطنية السورية، وانحازوا انحيازاً مطلقاً الى ما سُمي “الثورة “، واستمروا في ذلك الانحياز الأعمى الذي وصل الى حد مساندة الإرهاب التكفيري، والدفاع بحرارة عمّا يقوم به من جرائم القتل، والخطف، والحصار، وتدمير البنية التحتية للدولة، وغير ذلك من الجرائم البشعة الموثّقة التي تحولت، بقدرة قادر، في منظورهم المنحرف، الى أفعال ثورية تستحق التشجيع، فضلاً عن الإعجاب والتقدير؟! .
والسؤال مشروع بل ضروري، فالمثقف ضمير شعبه، وعندما يقف ضد مصلحة دولته وشعبه، حتى ولو برّر ذلك بكل ما يستطيع من مبررات قد تجد، للأسف، من يصدقها، فإنه ينحرف انحرافاً خطيراً عن وظيفته. ألم يقل لينين: “المثقفون أقرب الناس الى الخيانة لأنهم الأقدر على تبريرها”. ولن نتحدث هنا عن موقف المثقفين الذين اختاروا الاختفاء و السكوت، وهربوا من تحمّل المسؤولية الوطنية، فهؤلاء أيضاً، ارتكبوا جرماً شنيعاً يصعب عدم وصفه بالخيانة، مهما حاولنا التخفيف منه. إنه جرم الامتناع عن القيام بما يقتضيه الواجب الوطني تجاه الدولة التي تتعرض للعدوان، والتدمير، والتفكيك، والاكتفاء بدفن الرؤوس في الرمال كالنعام. لكن جرم هؤلاء يبقى أقل إثارة للاستغراب من جرم الخيانة الموصوفة الذي ارتكبه المثقفون الذين وقفوا، بكل وقاحة، مع مشروع إسقاط الدولة، باسم “الثورة” وتحت شعارات الحرية، والديمقراطية، وإرادة الشعب، وكأن الشعب الذي اغتُصبت إرادته من قبلهم، كان يريد أن تُهدم سورية على رؤوس أبنائها، وتتحول الى ركام!. فكيف ارتضى بعض المثقفين لأنفسهم هذا الدور المخزي؟.
للجواب نحن أمام احتمالين لا ثالث لهما، فإما أنهم اعتقدوا فعلاً أن ما جرى في البلاد ثورة شعبية حقيقية، وأن واجبهم يقتضي، بالتالي، أن يقفوا معها وأن يدعموها بالفكر. وهذا احتمال يصعب، بل يستحيل ترجيحه، فحتى لو افترضنا أنهم خُدعوا في البداية كما خُدع كثيرون غيرهم، فكيف نفسر ثباتهم علىموقفهم، حتى بعد أن تكشّفت الحقيقة للجميع شيئاً فشيئاً، وبان، بما لا يقبل الشك الهدف الحقيقي للثورة المزعومة، والدور الأساسي الأمريكي، والصهيوني، والتركي، والرجعي العربي فيها.
قد يقال هنا إن من الصعب على المثقف المخدوع أن يتراجع عن موقفه، لأنه سيفقد مصداقيته، ويعرّض نفسه للاحتقار. والجواب هو أن المثقف الذي يحمل هماً وطنياً حقيقياً لا يجد أي حرج في التراجع عن أخطائه، والقيام بالنقد الذاتي اللازم، ومن ثم العودة الى ممارسة وظيفته الحيوية، وهي هنا الدفاع عن دولته، وكشف المخطط الذي يستهدفها، وتوعية الناس بحقيقته وأهدافه، وحثّهم على مقاومته وإفشاله. ومع أنه لايهمّ ما إذا كان هذا المثقف موالياً للسلطة الحاكمة أو معارضاً لها، لأن المهمّ هو أن يكون مع دولته، فإنه لابد، في الممارسة الواقعية، أن يلتقي موضوعياً مع تلك السلطة الوطنية التي تتولى جيشاً، وشعباً، وقيادة مهمة الدفاع عن البلد، وأن يتم تأجيل تناقضه معها، إن وُجد، الى ما بعد دحر العدو، وإنقاذ البلاد من المصير الأسود المرسوم لها.
إننا في هذه الحالة أمام المثقف المقاول أو التقني الذي يضع إمكانياته المعرفية في خدمة أجندة معادية لوطنه مقابل أجر محدد، والأدق أن نسميه المثقف العميل الذي تصل به العمالة والمأجورية، كما رأينا، الى حد تمجيد الاحتلال الأجنبي لوطنه بحجة إزاحة “النظام”، والحصول على ما يسميه “الحرية”، وكأن الحرية توجد بين الخراب، وفي ظل الاحتلال..!.
أما وجه الاستغراب الذي يثيره هذا النوع البائس من المثقفين، فيعود الى الاعتقاد الشائع بأن المثقف هو ضمير الشعب، كما ذكرنا في البداية (وهذا فعلاً ما ينبغي أن يكونه)، وما يجعله في نظر معظم الناس محصناً أخلاقياً، ومعرفياً، ووطنياً، وغير قابل للاختراق والشراء.
نعم على المثقف أن يكون مثقف الشعب، وضمير الشعب. أي أن يكون مثقفاً وطنياً بامتياز. ولنا في التاريخ العربي المعاصر أمثلة كثيرة عن الدور الهام الذي قام به المثقف العربي في مرحلة الكفاح الوطني ضد الاستعمار، وكيف حمل المشروع الوطني والقومي التحرري باقتدار، وخلّف لنا بعضاً من أهم الأدبيات الفكرية والسياسية العربية في هذا المجال. وسيبقى المثقف الوطني موجوداً، وفاعلاً، ومنخرطاً حتى العظم في مشروع الدفاع عن وطنه وشعبه وأمته، وتعزيز روح المقاومة والتصدي لكل محاولات ثقافة الارتداد الموظفة في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني الرجعي، ورموزها من المثقفين التابعين، والعملاء، والمأجورين الذين لن يذكر التاريخ سوى صفاتهم الدنيئة هذه.
محمد كنايسي