“وحشة”.. الكليشيه التي ينقذها الأداء
ست حكايات أعدّها باختصارها إلى ما يقدّم مقولتها مباشرة، الفنان المسرحي “زهير بقاعي”، الذي أعاد إحياء الكاتب الروسي “تشيخوف” على خشبة القباني، في العرض المسرحي “وحشة”، الذي أخرجه الفنان “رائد مشرف” برعاية من وزارة الثقافة- المديرية العامة للمسارح والموسيقا-المسرح الجوال، مختاراً الاشتغال مع ممثلي العرض لتقديمه، وفق المدرستين المسرحيتين الكبيرتين “الستانسلافكية” بواقعيتها الشديدة و”البريختية” لمرونتها، خصوصاً في تقطيع الزمن وفق آليات معينة يقترحها المخرج هنا.
“وحشة” الذي امتد على مدار ساعة من الوقت، قام باللعب على مفهوم الزمن بإرجاع عقارب الساعة اللحظية بما هي فيه الآن –طبيعتها الاجتماعية والحياتية المعاشة بمختلف جوانبها حتى ذلك الثقافي والأكاديمي فيها- إلى تاريخ كتابة تلك الحكايات، ثم استحضار كاتبها للزمن الحالي، ليكون حضوره كمواساة للشخصيات البائسة التي خلقها على الورق، عندما تدرك ذاتها وتعاتبه على جعلها على هذه الحال، فيكون جوابه قدرياً هنا، وكأنه القدر، قدر ومصائر تلك الشخصيات، التي هي من عالم الكاتب ومن مجتمعه عموماً، هذا القدر هو الكاتب ذاته -أدى دوره الفنان جهاد الزغبي-، فالحكايات الست التي تمّت كتابتها منذ قرن، تظهر شخصياتها لتقول على لسان كاتبها مرة أخرى: تُرى هل تغير في عالم الإنسان شيء؟ هل مازال السيد يستعبد الناس؟ وهل مازالت المجتمعات منقسمة بين فقير وغني؟ وهل خفّ منسوب الألم بين الناس؟ وهل قام الأدب بجعل الحياة أفضل؟ ليجيء الجواب على لسان العرض ذاته أيضاً، ومن النصوص المنتقاة لتقديم المقولة، بعد أن اختار معدّه أن تكون ثيمة “الخوف” هي الرابط الذي يجمع بين الأجزاء أو اللوحات “الممسرحة” وهي (موت موظف/النحيف والبدين/المغفلة/ المصيبة/ فرحة/ وحشة) التي يحفظها الجمهور عموماً عن ظهر قلب، باعتبار أن أعمال “تشيخوف” للمسرح والتلفزيون أيضاً، صارت وكأنها “كليشيه”، أو توحي بما تعنيه الكلمة، عدا عن كون القصص بدلالاتها وما تذهب إليه من تقديم لعوالم وشخصيات وحالات إنسانية متناقضة، بمناخ ينحو إلى القسوة التي تنتجها الفوارق الطبقية الاجتماعية، والتي هي سمة القرن العشرين برمته وسمة معظم أدبه وأدبياته، حدث وأن شاهدها الجمهور مئات المرات، وفي العديد من الأنواع الدرامية، خصوصاً وأن معدّ العرض ومخرجه حافظا حتى على أسماء الشخصيات كما وردت عند تشيخوف، كما تمّ الحفاظ على أزياء أهل ذلك الزمان، وهذا ما يبدو اتفاقاً بين المعدّ والمخرج على نقل تلك الحقبة بحالها وكما هي، للحديث عن كون الحال لم تتغير بعد، ومازال البؤس هو السيد، ومازال الألم هو ما يحياه المساكين والمستضعفون في الحياة -أحدهم يموت فرحاً لأنه تصوّر مع مسؤول تسبب بقتله، وآخر يموت من الألم وعذاب الذات، بعد خوف قتلهُ إثر عطسة بلّل فيها رقبة رجل مهم كما اعتقد من مظهره، خادمة تتنازل عن حقها بسهولة حتى وهي تعلم أن سيدها يسرقها- حتى أن الفوارق الطبقية التي ناضل الكاتب وغيره من الكتّاب العالميين لنسفها من الوجود أقلّه الأدبي، صارت أكثر حدة من ذي قبل، فطبيعة العالم الرأسمالي آخذة بالتحول إلى أكثر من مجرد بقائها على حالها، على الأقل في الشكل، الذي لم يراعه المخرج، وباللغة أيضاً وتقديم اللوحات استناداً إلى الطريقة “البريخيتية” –الممثلون يكسرون الإيهام بتغييرهم للديكور وتحريك قطعه أمام الجمهور بعد نهاية حكاية وبدء أخرى.
الاعتماد على الممثل كان خيار المخرج الأكثر قدرة على رفع سوية العمل، خصوصاً وأن الحكايات التي أخرجها هي من تلك التي يحفظها الناس في وجدانهم، وجاء السبب أو التفسير عن لماذا تمّ تقديم هذه الحكايات باللغة الفصحى ودون أي تغيير حتى في أسماء الشخصيات -وكأن صُنّاع العمل يتوقعون السؤال- على لسان الكاتب الحاضر كشخصية هنا، عندما تساءل إن كان ثمة تغيير حدث على حياة الناس بعد قرابة المئة عام من كتابة هذه النصوص، وهذا ما قاله “وحشة”: إن الفكر والأدب حتى ذاك الذي برع فيه كاتب مثل تشيخوف، غير قادر على تغيير العالم، فمازال السيد سيداً والعبد عبداً، ولو نجح هو ككاتب وغيره من الكتّاب والفنانين الآخرين، في تغيير طبيعة المجتمعات، لما بقي المشهد على حاله، ولما كنّا لنشاهد عرضاً مسرحياً عمره مئة عام تقريباً، يريد أن يقول ويعيد ما هو مُقال ومعاد وبكثرة، لكن الأداء المتقن للدور وللشخصية أعطى للعرض طابعه المسرحي “القح” كما يقال، نقل ما في الورق إلى الخشبة، من خلال مجموعة ممثلين محترفين، صنعوا فرجة معقولة، لم تسمح للملل بالتسرب لدواخل الجمهور، حتى عندما انقطع التيار الكهربائي مرتين، وفي كل مرة توقف العرض فيها، حافظت كراسي القباني على من يجلس عليها، تقديراً للجهد المبذول الذي يشتغل مسرحاً صرفاً، ويسعى لأن يكون بسيطاً حاضراً في الوجدان العام، رغم خطورة الخيار الذي أشرنا إلى كونه صار بمثابة “الكليشيه” المكررة والمملة، بالتأكيد الأداء الكوميدي المحترف للفنان “قنوع” كسر الرتابة التي سارت الحكايات وفقها، حكاية وموسيقا تعتبر كفاصل بين الواحدة والأخرى، وديكور يصلح لبعض اللوحات ولا يصلح لأخرى، أيضاً الاشتغال على الإضاءة، بمعنى أنها حضرت كمؤثر بصري أكثر منه مؤثر إبهاري، لذا كان من الطبيعي أن يرتقي الأداء عند الممثلين، وأن تحضر الروح “التراجيكوميدية” في أجواء العمل، وإلا لأصبح لا يُحتمل.
الممثلون: جهاد الزغبي، محمد خاوندي، روجينا رحمون، رؤى البدعيش، محمد ايتوني، أحمد عاصي، زهير بقاعي، ربا المأمون، نضال جوهر، محمد ناصيف، محمد شما، رائد مشرف”.
عرض “وحشة” مستمر كل يوم الساعة السادسة مساء على مسرح القباني حتى منتصف آذار الجاري، والتصوير الفوتوغرافي ليوسف بدوي ومساعد المخرج رامي سمان، وتصميم الإعلان لزهير العربي وتنفيذ الديكور لخولة يونس، وتنفيذ الإضاءة لعماد حنوش وتنفيذ الصوت لركان عضيمي، ومدير المنصة هيثم مهاوش ومسؤول الإكسسوار والملابس علي النوري.
تمّام علي بركات