الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مُذاكرة

عبد الكريم النّاعم
جلس صديقي الذي لم يبقَ غيره من رفاق أمسي المديد مَن يتفقّدني، أو يزورني، إلا لماماً، امتدّ صمت الكلام بيننا، بينما كان تواصل الأمس في أوجه، ولكي أفتح باباً لتواصُل أكثر نبضاً قلت له: “هل تذكر تلك السنوات، يوم كنّا ندرج في تلك البقاع، حيث زُرقة الأفق، واشتعال ثريّات النّجوم في السماء بعد المساء، وكيف كان لكلّ فصل نكهته، وهويّته، ففي الشتاء كانت رفوف الزرازير تملأ سماء ما قبل المغيب، ومطاردة طير “الشاهين” لها، ونحن نراقب كيف سيختطف عشاءه من تلك الغيمة السوداء المتماوجة هرباً وطلباً للنجاة، وكيف كنّا نلتفّ حول التّنور قرب المساء طلباً للدفء، وفي المساء يتوافد الساهرون، فيجلسون في شبه حلقة، ويمدّون أرجلهم تحت لحاف يُنشَر عليهم طلباً للدفء، ويكون نجم الليلة، وربّما كلّ ليلة، مَن يجيد حفظ القصص والحكايات، وبعضهم كان بارعاً في روايتها، إذْ يحشد لها شيئاً من التمثيل في حركات اليد، أو الجسد، أو في تعابير الوجه، وتلوين الصوت بما يناسب المعنى؟.
لقد أُعيدت على مسامعنا تلك القصص مئات المرّات، وفي كلّ مرّة كنّا نتفاعل معها، ولا نملّ، فقد كانت المادّة الوحيدة المُتاحة، وتكون الجلسة أكثر نداوة حين يوجد زائر، أو ضيف يعزف على الرّبابة، فتتلوّن الساعات بألوان ذلك الغناء الشجيّ، العذب، المعبّر، سأذكّرك بشخص انتقل إلى دار الآخرة، وكان ذا صوت جميل، ويغنّي في تلك الجلسات، وكان فقيراً فقراً مدقعاً، وكان ذا نباهة عالية، وحين يذكرونه في غيابه ويقول أحدهم: “سبحان الله، كلّ هذا الفهم، والصّوت الطيّب، و… هذا الفقر”! فيردّ آخر حاملاً حكمة زمنه فيقول: “الفهم رزق، والصوت رزق، هل تريد من الله أن يجمعها له من جميع الجهات”؟!. أتذكُر حين كانت الأمطار تبدأ منذ بداية أيلول غزيرة متتابعة، ولا تقلّ إلاّ في نهاية آذار؟!.
قاطعني: “أراك سرحتَ سرحة من انسجم مع ذكريات لم يبقَ منها إلاّ أنّها ذكريات، هل هو هروب ما من جفاف الحاضر؟! وأنت تجيد تقليب الحديث حين تعود إلى تلك المواضع من الذّاكرة، ألا تخشى أن يُقال عنك إنّك رجعيّ”؟!.
صدمتني مفردة “رجعيّ”، فتوقّفت قليلاً وقلت له: “نحن حين نعود إلى الماضي، فليس لأنّه الأبهى، أو أنّه ما نطلب، وربّما احتفظتْ ذاكرتنا بأجمل تلك الأيام، وأكثرها حميميّة، ربّما لإقامة توازن ما مع قسوة الحاضر، وأنا حين أعود إلى فضاءات الذاكرة فليس للدّعوة لإحيائها، ولست أرى فيها نموذجاً يُحتذى، بل هو دفء الحنين، وغنى المشاعر التي تسكننا، أمّا الرّجعيّة بالمعنى الذي قصدتَه فهي خاصّة بالتوجّهات الفكريّة المجتمعيّة التي ترى في الماضي كمالها، وأنّه ماض خالٍ من العيوب، وأصحابها في ذلك يدافعون عن قلاع ما يتمتّعون به من نعيم دنيويّ باذخ، ويصرّون على إجبارنا لكي نعيد ما كان في صورة ما سيكون، وفي ذلك مغالطة منطقيّة وحياتيّة فظّة، وأنت أدرى بموقفي منها.
aaalnaem@gmail.com