الغراب يقلد اليمامة
د. نهلة عيسى
أتمعن في وجوه الخارجين من الغوطة بعد سبع سنوات من إن ولأن, فأشعر بالذعر, وكأن قدمي على الدرجة الأخيرة من سلم المقصلة, وملف اعترافي مرفق ببؤبؤ العين, وقعته مكرهة بيدي, دون أن أرى, أو ربما لأني لا أريد أن أرى, يقول: زمن الموت لن ينتهي, هو فقط سيتحول إلى ضمير مستتر, لا تتندروا أحبتي, لست أمارس دور زرقاء اليمامة, لكني رأيت في شاشة الأخبار, وخلف بقايا البقايا, أن الغراب خارج العش يحاول أن يبدو يمامة!!.
أتمعن في الوجوه تدّعي السلام, وخطوط الجبين والعيون والأفواه حرب, فأشعر أني وحيدة, وأن معابر الخروج حبلاً للنجاة من جريمة, وسفناً غارقة, وخناجر صامتة, وطحالب, وسلالاً من القطط النافقة, وحزناً في عيوننا نحن من نرى ما نرى, يتصبب خجلاً ممن يستشهدون دون أن يسألوا: لماذا, وما هو الثمن؟ رغم أنه وفق ما أرى, أن السهم الذي أتاهم من الخلف, سوف يجيئنا من ألف خلف, رغم أن صور التلفاز تتجاهل الدم المرسوم على كل كف, وتلفق إبرة تحيك خيط الصواب مع خيط الخطأ, لكن دعوني أتساءل بسذاجة: هل يشبه النسر الثعلب؟ “الغوطة” ليست سيفاً لسيف, هي دائرة طباشير, من, إلى, عن, على, والكل يغني على ليلاه, وليل وطني يبدو على شاشة التلفاز مديداً, كصاحب الظل الطويل, فاعل مجهول النسب, وآباء كثر!؟.
أيها الرب: أراقب التلفاز وشفاهي تلعق الدموع ملحاً, وأيدي من قتلونا تتناول دماءنا حساءً, ومعونات دولية, وفي أجسادنا آلاف الجروح, وببساطة عجيبة, رغم أنه ممنوع علينا العجب, تنام أعين الجبناء, ودماؤنا لا تنام, تراق كل يوم, وتصب كل يوم في فناجين “الغوطة” وغير الغوطة, حيث الجبهات بحر, وصدرنا يواجه السيف في كل جبهة, وفي الظهر الجدار, إن كان لابد من السلام كما يقول التلفاز, فليكن على الشهداء السلام!؟.
أيها الرب: في روضة الأطفال في غابر الزمان.. علمونا, باسمك الرحمن الرحيم يُفتتحُ اليوم, وفي سبع سنوات من موتنا, كلما قطعوا رأساً من رؤوسنا, قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم, ونحن منذ سبع في انتظار أن نسمع قائل يقول: صدق الله العظيم, أيها الرب: أتمعن في الوجوه فلا أرى إلا أنقاض أنقاضنا, ولا أرى إلا الحرائق تشب في ثيابنا, بيوتنا, قلوبنا, والماء يحجزها التتار, فهل ترى ما أرى, أم أنه السراب!؟.
أيها الرب: فمنا مزموم, والصوت صدأ, والشكوى عار, وكلما اعتدنا جرحاً, رشق عابرو جرحنا عليه ماء النار, “العودة إلى حضن الوطن” ليست مسيحاً مرتجى, بل قهوة الموتى المرة, نتجرعها إكراماً لجاهة تظن (وبعض الظن إثم), أن حديثاً يدور بين القاتل والقتيل, سوف يجلو عن عيوننا الليل, ويجعل وجهنا نوراً وبنوراً, أيها الرب: مشتاقون نحن للشمس, للحب, لعالم بلا حقد, لكننا لن ننحني, إذ لن يضير شاتنا سلخها بعد الذبح, عام آخر من الحرب, بل ربما عامين, كل الأيام سواء, “العودة إلى حضن الوطن” ليست مسيحاً مرتجى, بل سدى, وقت ضائع سدى, في محكمة لا يهمها من القاتل ومن القتيل, ولا تميز بين من بدا ومن صدَ, هي إذن قهوة مرة, والحياة ستبقى خيمة عزاء!.
أيها الرب: في روضة الأطفال علمونا, أن نعوذ باسمك من الشيطان الرجيم, ومنذ سبع في بلادي مفرخةُ شياطين, وفي صور التلفاز عن “الغوطة” لم أرَ سوى شياطين, فاستعذتُ بك منهم, وأدرتُ وجهي نحو قاسيون, هناك نام أهل الكهف أربعة قرون, وقيل هناك قبر هابيل, ومؤكد قبر جندينا المجهول, ونزهات الفقراء في بلادي, حيث لا شيطان ولا رجيم, وحيث سيأتي يوماً, ربما غداً, ربما بعد عام أو عامين, سنجتمع تحت علم البلاد ذو النجمتين, لنضع أكاليل الورود على قبر جندينا المدفون في القلوب, ولن ننسى وجوه من عادوا إلى حضن الوطن, هل يستوي النسر والثعلب!؟.