مصالح الدول الصغرى في بناء أوراسيا الكبرى
يراود الموضوع الأوراسي، منذ ما يزيد عن عشرين عاماً وحتى يومنا هذا، مخيلة العديد من الدول والمنظمات الدولية، وليس ثمة شك في أن فكرة أوراسيا الكبرى التي طرحها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فكرة واعدة متناسقة ومتساوقة مع الأزمنة في الشكل والمضمون.
ويُعتبر مفهوم “الحزام والطريق” الذي أطلقه الرئيس الصيني “شي جين بينغ” جذاباً، ليس من حيث نطاقه أو رقعته الجغرافية فحسب، بل بسبب إمكاناته الهائلة لتنسيق التنمية الاقتصادية وإقامة الشراكات، وسد الفجوة– قديمة العهد- في الهياكل الأساسية بين الشرق والغرب.
لقد دعت القيادة الروسية الاتحاد الأوروبي لبذل الجهود الرامية لإقامة مجال اقتصادي وإنساني موحد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ استناداً إلى مبادئ الأمن الذي لا يتجزأ، والتعجيل في بدء المحادثات حول إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والاتحاد الأوروبي، إذ لا يمكن اعتبار هذه الدعوة كمشروع أو مبادرة متنافسة بهدف تحدي القيادة الصينية، لأنه بالنظر إلى الزخم الإيجابي للتعاون الروسي – الصيني يمكن للمشروعين أن يكونا متكاملين تماماً، لتعم الفائدة على دول العالم كافة.
وبالطبع، ينبغي على المؤتمر المعني بالتفاعل، وبتدابير بناء الثقة في آسيا الذي يضم ستة وعشرين بلداً ألا يخرج عن الهدف، وقد وجد الهدف الواضح لبناء أوراسيا الكبرى طريقه في جدول أعمال منظمة شانغهاي للتعاون التي تقودها الصين وروسيا، والتي تعتبر من خلالها الدول الصغيرة مثل قيرغيزستان شركاء متساوين مع الدول العظمى، وهذه المساواة ليست مجرد إجراء شكلي، لكنها حقيقة عملية لنشاط المنظمة، ومع ذلك تحتاج المنظمة لتحقيق مزيد من التقدم حول مفهوم أوراسيا الكبرى لإجراء تحولات جدية.
ويعتبر ضم الآسيان في مشروع أوراسيا الكبرى ضرورة موضوعية لعدد من الأسباب بما فيها تأثر دول الآسيان بالتنمية الاقتصادية العالمية و بالقواعد والمعايير الخاصة بها، بالإضافة إلى الحاجة لمكافحة الجريمة العابرة للحدود.
وفيما يتعلق بالفكرة العامة لبناء أوراسيا الكبرى، هناك إيمان أن بلدان القارة الأوروبية الآسيوية تواجه تحدياً استراتيجياً بإطلاق عملية تاريخية جديدة متعددة المهام ومتعددة الأغراض، ولن يواصل هذا الجهد المطالبة بطرق نقل جديدة للسلع والأشخاص ورأس المال، وما إلى ذلك فحسب، ولكنه سيواصل الدفع بقوة للبدء بعملية تاريخية جديدة تكون شاملة استباقية ترمي لإيجاد حلول لمشاريع مفيدة لأمن الدول وشعوبها وحقوقها واحتياجاتها، وتكون مفيدة للجميع، وذلك وفق قواعد ملزمة تنظم الأنشطة المشتركة لكي يعتمدها جميع المشاركين في هذه العملية، وينبغي لبلدان آسيا الوسطى أن تكون أكثر استباقية لتوحيد جهودها الرامية إلى تعزيز التنمية في جميع أنحاء المنطقة لتجنّب تهميشها.
وينبغي لهذا المفهوم أن يتضمن عدداً من الجوانب المتصلة بتعزيز ثقافة جديدة للعلاقات بين البلدان والشعوب، واستحداث وإدخال معايير وقواعد جديدة لإقامة نظام اقتصادي جديد يقوم على قدر أكبر من المساواة والمنفعة المتبادلة، والانتقال إلى نموذج قيادة جديدة من حيث الشكل والمضمون، وتبني نهج جديد للدبلوماسية يسمى دبلوماسية “طريق الحرير”، ومنع الإفراط في التسليح بما يتجاوز المستويات المعقولة على طول طريق الحرير، وأخيراً وضع شروط مسبقة لاتباع نهج مشترك للأمن الجماعي.
ومن هنا يجب أن يستند هذا النوع من ثقافة العلاقات الجديدة إلى المنجزات الإيجابية التي تحققت في السنوات الماضية، والبناء على إنجازات المجتمع في الجزء الأوروبي الأطلسي، وعلى العناصر الأخرى لتراثنا التاريخي العالمي، بما في ذلك ثقافات آسيا الوسطى التي أغفلها التعاون الدولي.
في عالم اليوم، يجب أن تكون العلاقات ضمن أفق طريق الحرير خالية من القوالب النمطية، وسوء الفهم المثير للسخرية، وما نحتاج إليه هو القيام بجهود شعبية لتعريف شعوبنا بثقافاتنا المختلفة بدلاً من ترك الأمر للدبلوماسيين والخبراء ورجال الأعمال، وذلك يحتاج إلى إعادة صياغة القيادة الحالية، ورفدها بمحتوى جديد، الأمر الذي قد يشكّل تحدياً في ظل الحالة الراهنة للعلاقات الدولية، وبطريقة ما، سيكون مشروع أوراسيا الكبرى بمثابة منصة لتطوير مفهوم جديد للقيادة، ومن المهم أن تسهم البلدان والشعوب غير القادرة على تحقيق تطلعاتها للحصول على دور قيادي في الشؤون العالمية في تطوير هذا المفهوم، ومن الواضح أن بناء ثقافة جديدة للعلاقات، وإدخال مفهوم جديد للقيادة، يمكن أن يكون أساساً لدبلوماسية طريق الحرير.
ويمكن للبلدان المشاركة في مبادرة طريق الحرير الجديدة أن تستخدم الهياكل الدولية القائمة مثل مؤتمر التفاعل، وتدابير الثقة في آسيا “سيكا”، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شانغهاي للتعاون لمواجهة العسكرة المفرطة في أوراسيا.
وتعتبر مسألة عدم انتشار الأسلحة النووية قضية أخرى ملحة، وأعتقد أن آسيا الوسطى بالتحديد يمكن أن تصبح منطقة خالية من الأسلحة النووية، وبذلك يتعزز نظام عدم انتشار الأسلحة النووية بالتخلي عن استخدام الطاقة النووية للأغراض العسكرية، ومن خلال تنسيق جهودها وبدعم من الأمم المتحدة، يمكن للمنظمات الإقليمية والدولية الأخرى في المنطقة الأوروبية الآسيوية، والدول المنفردة مثل الصين، وروسيا، ودول آسيا الوسطى، أن تعزز فكرة إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في أوراسيا.
وختاماً، إن مبادرة أوراسيا الكبرى، والتعاون المشترك بين الدول في هذا المجال، فكرة جذابة لجميع البلدان الأوروبية الآسيوية، ولن نتمكن من تحقيق الأهداف التي وضعناها لأنفسنا إلا بالعمل معاً، والتعاون على أساس المنفعة المتبادلة.