الغوطة.. المعركة الأهم استراتيجياً
لم تستوعب واشنطن حتى الآن أن عالم ما بعد الحرب على سورية ليس كما قبلها وأن الاعتماد على القوة العسكرية الكاسحة، والتهديد باستخدامها لن يجعل الآخرين ينصاعون لرغباتها، ويتركون لها الحبل على الغارب تجنباً للاصطدام معها، وكذلك لم تقتنع إدارة ترامب بأن إطلاق التصريحات غير المسؤولة، والتي تعبّر عن عنجهية لا ترتكز على واقع، ستعود بنتائج عكسية، إن لم نقل فقدان المزيد من الهيبة والهالة التي أحاطت نفسها بها، أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي.
من منبر الأمم المتحدة هدّدت نيكي هايلي باتخاذ إجراءات أحادية ضد سورية، وذلك يؤكد مجدداً عدم احترام واشنطن للشرعية الدولية، وأن ما تريده فقط، من أعلى هيئة يُفترض أنها تحمي الأمن والاستقرار في العالم، هو تبرير أفعالها المجنونة، وشرعنة تدخلاتها في شؤون دولة ذات سيادة، بعد أن عجز وكلاؤها عن تنفيذ ما تصبو إليه. إلا أن ما يوضّح حقيقة أن أمريكا لا تزال تعيش على أمجاد الأحادية القطبية وأن العالم دخل مرحلة التوازن، وأن أمريكا الأمس ليست كما أمريكا اليوم، هو أن تهديدات هايلي لم تخرج بما يحفظ ماء الوجه، فعمليات الجيش السوري استمرت وفق المخطط المرسوم لها، والوقائع تؤكّد قرب فقدان واشنطن، ومن معها، أهم ورقة راهنوا عليها في الميدان، ولم يتأخر الجانب الروسي حتى يبلغها بأن كلام “الميكرفون” لا يتماشى مع ما يجري على أرض الواقع، وأن أي اعتداء على سورية سيواجه برد حاسم.
إذاً هو كلام في الهواء، تفوّهت به مندوبة أمريكا الدائمة في الأمم المتحدة، وينسجم فقط مع ما يفكر به الأحمق ترامب العاجز عن الإمساك بخيوط اللعبة السياسية، حيث لا يزال يعتقد أن بإمكانه الوصول إلى ما يريد بالتهديد والوعيد تارة، وبالتخلي تارة أخرى، كما فعل مع “الناتو” وآل سعود، كما أن ذلك يعكس عدم استيعاب أمريكي لحجم التحولات التي عصفت بمنطقتنا والعالم، بعد أن أثبتت سورية وحلفاؤها بأنهم على قدر التحديات، ويدركون أن المعركة معركة كسر عظم، وتتطلب تضحيات كبيرة ونَفَساً سياسياً طويلاً على طاولات الحوار، ومن على المنابر الدولية والمنظمات الإنسانية، الأداة التي كانت تعول عليها أمريكا لتعويض ما لم تستطع تحقيقه من خلال العسكرة، وجيوش الإرهاب، وقيادة الحرب من الخلف.
لن تكون معركة الغوطة آخر المعارك، لكنها الأهم استراتيجياً ومعنوياً، وهو أمر يفرضه الموقع، وحجم التجهيز والتحصين، والدعم الغربي التسليحي واللوجستي للمرتزقة، والبروباغندا التي رافقت ذلك على مدار سنوات الحرب. بعبارة أخرى هي معركة فاصلة، وستحدد نتائجها بأي اتجاه ستسير الأمور في الميدان وفي السياسة..
مجريات الأحداث بيّنت أن أمريكا خسرت، فالجيش السوري بات أكثر تمرّساً في القتال، ومستعداً لخوض الحرب حتى النهاية، وتحقيق الانتصار، والشعب السوري أشد تمسّكاً بثوابته الوطنية، وما المظاهرات التي تعم الغوطة للمطالبة بخروج الإرهابيين، ومناشدات الأهالي جيش وطنهم لدخول بلداتهم، إلا تأكيد على أن ذرف دموع التماسيح، والمتاجرة بالدماء، والمعاناة الإنسانية لم يعد يجدي نفعاً، رغم محاولات الغرب الظهور بهيئة المدافع عن الشعوب.
ما يجري في الغوطة من حراك شعبي في مواجهة الإرهاب، وتلبية الجيش لنداء الأهالي لتخليصهم من مرتزقة القتل الجوال، هو صورة مصغرة لمجمل المشهد، ولما سيحدث لاحقاً على كامل التراب السوري، والذي يمكن اختصاره بجملة واحدة: شعب ضاربة جذور حضارته في عمق التاريخ، ومستعد للبذل والتضحية في سبيل الحفاظ على الهوية واستقلالية.القرار.. حتماً هو منتصر.
عماد سالم