ثقافةصحيفة البعث

أمُّلات عبد الكَريمْ النّاعِم في “ارحلْ هكذا”

وكأنما الشاعر يعمل على أن يصب في مجموعته عصارة أفكاره وتأملاته، وما أثمرت عنه سنوات عمره من تجارب وأفكار، آمال وآلام، الانكسارات والخيبات أيضاً، يلقيها هكذا في وجهنا يتخفف منها، ينزلها من على كتفيه عازماً على المغادرة خفيفاً، ويرحل هكذا:
“الزَمِ الصمتَ عميقاً/واحترِفْ هذا السّكوتْ/كي إذا كنتَ تموتْ/تدخل البرهة/‏من أقصى حدود السَّلَسِ الضّافي/إلى أُنْسِ البيوتْ”‏.
أفكار فلسفية ورؤى أوردها الشاعر عبد الكريم الناعم في مجموعته الشعرية “ارحل هكذا” والتي ضمّنها خلاصة تأملاته، تحمل أفكاراً ومشاعر تتنازعه، وهي وإن أورد في العديد منها نوازعه الخاصة كهذا الحنين إلى شيء ما، أو أشياء في قصيدته “غياب نجم”:
“لماذا أحِنُّ إلى (البَدْوِ) حتى/كأنّيَ كنتُ أميراً هناكَ؟!/إلى القهوةِ ( المُرّةِ) والليلِ
والاحتكامِ إلى قصّةِ عشقٍ/تناقَلُ عبرَ المضاربِ/تُصغي القلوبُ إلى رعشةٍ
في (القَصيد)/تجدّدُ فيه، على الأمنيات، الشبابا؟!”
أو هذه الحيرة التي تعتريه في المهدي الحائر:
“ثمّة طائرُ قلبٍ/ما أن يَخلبهُ غُصنٌ/حتّى يَقفزَ نحوَ الآخرْ/مَن يُنقذُني مِن هذا الطّائرْ؟
أعياني أنّي المهْدي الحائرْ”
ومن يردُّ عنه هذا الحزن الذي خلّفه جفا الحبيب في “سرد”:
“سيّدتي/بِمن ألوذ؟!/ليس لي سواكْ/الحُزنُ قاتِلٌ/والمرُّ طَعمٌ ناصِلٌ/لِبعضِ مَنكِ الجميلِ أنْ يَفيضَ/فارْفَعي سِتارة الشُّبّاكْ”
وها هو يخشى الوحدة يتوقعها ويرسم ملامحها، وقد يتهيأ لها، ويُعِدُّ نفسِه للاعتياد عليها، يقول في قصيدته نعش:
“ها أنا الآن وحيدٌ/مثلَما قد كنتُ أخشى/أفْرَغَ الصّمتُ الكثيفَ الأسودَ/اللاهبَ في الكُوبِ/وألقاني إلى الأشواكِ دهْشا/حينَ لا يبقى من الصّحْبِ نديمٌ/والمراراتُ شراراتٌ تَرامى، لا انتظارٌ للذي يأتي/ولا نَفْحُ ادِّكارٍ/أنتَ مَنْ في الظلمةِ الشّوهاء؟! نعْشٌ/حاملٌ/للصمتِ/نعْشا”..
لكن برغم الألم والهم الخاص لا بد للشأن الوطني أن يكون حاضراً، وقد كان شاهداً على الآلام والآمال في سنوات الحزن الأخيرة التي عاشها أبناء هذه الأرض، حزن كان لا بد أن يصبغ بعضاً من بوح شاعر يحمل الوطن في قلبه ووجدانه، يقول في “حارس النبيذ”:
“أنا الآن أحضُّ النبيذَ/ لكي/ يتدلّى/ مساءً/ وحيداً أكونُ/ فما ثمَّ مَن يتخطى الرصاص/ وجسر الدِّماءِ/ ليشربَ كأساً/ويسمعَ شِعراً/فيا مَنْ نأيتُم على القُرْب/ تَسعونَ خَلفَ الجنازات شَتّى/ الجثامين فَجرٌ/ تُضيءُ الزوايا/ لِتُجلى المَرايا / أحبّاءَ عُمري / سأحْرسُ هذا النّبيذَ / إلى أن تجيئوا / مع العائدينْ”.
ويرجو الإله “في الباب الذي لا يغلق” أن يزيل هذا الهم:
“لَقد أسكرَتنا الكَوارثُ دونَ شرابٍ/وضلَّتْ ما أترعتنا الكؤوس/ففي كل بيتِ شهيدٌ (عريس)/وفي كلّ حَفنةِ قَمحٍ/على النّهبِ سُوسُ/فيا من أمدَّ بـ (بَدرٍ)/على اليأس أهل الوضاءةِ،/نَصرَكْ/أزِل عن بلادي وأَهليَ ضُرَّك”.
وجدانيات تجاوزت المئة والستين قصيدة، غلب عليها الإيجاز والقِصَرْ، فباتت كالحِكَم، “وحين تُصبحُ النجومُ مطفأةً/ يضَيّع الرُّبّانُ فيها مرفَأَه” هي نتاج تأملات الشاعر في السنوات ما بين الـ 2007– 2016 تضمنتها المجموعة الصادرة عن اتحاد الكتّاب العرب/ سلسلة الشعر أتت في 166 صفحة من القطع المتوسط، وتعتبر إضافة جديدة لأعمال عديدة سبقتها منها: زهرة النار 1965، حصاد الشمس 1972، الكتابة على جذوع الشجر القاسي 1974، الرحيل والصوت البدوي 1975، عينا حبيبتي والاغتراب 1976، تنويعات على وتر الجرح 1979، عنود 1981، دارة 1982، احتراق عباد الشمس 1984، أقواس 1986، من مقام النوى 1988.
بشرى الحكيم