ثقافةصحيفة البعث

“صخب” في المسرح الدائري

 

هناك عناية واضحة بتصميم “بروشور” العرض المسرحي “صخب” الذي يخرجه “عروة العربي” عن نص بعنوان “صخب في كيوتسا” للإيطالي “كارلو جولدوني” والذي عرض على مسرح فواز الساجر –الدائري-في المعهد العالي للفنون المسرحية، كتمرين للطلاب ضمن الخطة التعليمية التي تُعنى بتأهيل الطلاب للتعامل مستقبلا مع نصوص مسرحية سيقومون بتنفيذها في حياتهم المهنية المقبلة.
الاهتمام بالتفاصيل والذي نراه منذ إلقاء نظرة على “البروشور” يمكن ملاحظته من خلال طريقة تصميم الصور”11″ صورة، والتي تقدم لنا الممثلين الذين يؤدون الشخصيات، فالتلوين الفائض للصور، والطريقة الكرتونية التي رسموا بها، تحقق تآلفاً مسبقاً مع العرض، وذلك في انسجام مع أنموذج الإخراج الذي اختاره المخرج الذي عمل جاهداً للاعتناء جيدا بالنص وفهمه ما يعني فهم جوانيات شخصياته وجوهرها ولذلك لم يكن من الصعب عليه إدارة الممثلين وتوزيع الأدوار على الطلاب ببراعة؛ هناك عنصران من الصعب الجمع بينهما في الأداء، وهما الحركة العفوية على الخشبة التي تنم عن مهارة في إدارة الحركة البدنية ككل، مع مراعاتها للاستفادة من الأبعاد التي توفرها السينوغرافيا، والتي جاءت على نحو التغريب، بديكورات جزئية توحي وتستجلب المكان، لكنها تتجنب أن تقدمه بواقعيته، فتنسجم أيضا مع الأداء بذلك، الذي وإن اقتصر على الواقعية، في التعامل في الحركة البدنية ككل، إلا في ما يخص الإلقاء الصوتي وحركات الرؤوس والأيدي الجزئية، فهو يجعلها اقرب إلى نمط “الغروتيسك” فيحصل على الميزتين معا، الغروتيسك، بما تحمله من ثقل تاريخي فني، والحاضرة بالأداء الصوتي كما أسلفنا، مع الواقعية على مستوى “الميزانسين”، وذلك السبب في جودة إخراج هذا العمل؛ الرسوم الكرتونية على البروشور، تمهد لذلك الغروتيسك.
الطريقة التي يظهر فيها اسم العمل والمخرج والمكتوبة بخط حرّ، على خلاف المعلومات الأخرى والتي من قبيل “وزارة الثقافة تقدم..الخ” تنم عن رغبة فريق العمل، بأن يصنعوا، عملا شبابيا جديدا ضمن شروط إبداعية رفيعة، وذلك ضمن مؤسسة تعليمية أكاديمية ومنهاج درسي، وهذا ما تحقق فعلا، فمن يشاهد العرض، يشعر أنه لمحترفين دخلوا سوق العمل منذ أعوام، وهم في الحقيقة، ما يزالون طلابا في الفصل الأول من السنة الرابعة.
تحكي هذه الفرجة عن شجار يقع بين عائلتين جارتين بسبب قيام زائر بإعطاء وردة لفتاة من كل عائلة، الأزواج الغائبون في البحر للعمل سوف يعودون ويكبر الخلاف، عندما تشتغل النميمة النسائية بين العائلتين، ثم تتوالى الأحداث، والمشاكل.
المهارة “السينوغرافية” تبدو واضحة في اقتراح البحر أو الشاطئ كمكان للقصة، ثم تتبدل وذلك بالطريقة الضوئية اللونية البسيطة، فالألوان تتبدل لاحقا لتلائم إحساس كل مشهد ومزاجه العام، هذا أيضا متوفر منذ مرحلة الإعداد للبروشور بالتلوين الفائض للرسوم، وهذا يكشف أن فريق العمل وعلى رأسه المخرج، كان لديهم إلمام جيد بجميع عناصر العرض المسرحي، وذلك في مرحلة التحضير.
زمن العرض “100 دقيقة” يفيض عن الزمن الذي تحتاجه القصة وكان يمكن اختصاره، غير أنه يمكن النظر لهذه الإطالة بإيجابية، فالممثلون طلاب ويجب أن يختبروا مشاريع صعبة وشاقة، وهذا يكشف عن تحسن في مستوى تنفيذ الخطة الدرسيّة، وهو أنه يجب التعامل مع العرض –كل عرض-بمنطق تعليمي أكاديمي، فالهدف من العروض، إتاحة الفرصة للطلاب للتجريب والتعلم بالدرجة الأولى، لا أن يكون الهدف صناعة عروض جيدة، ومع هذا أتى العرض جيدا رغم مساحة التجريب والابتكار التي تظهر فيه.
البروشور الذي يعتني بالألوان الدافئة، يمكن النظر إليه وفق مبدأ “المكتوب مبين من عنوانه” وهذا التفصيل البسيط الذي ينفذه الآخرون على عجالة عادة، يأتي ليوحي أن العمل متقن ككل وليس فيه أي ثغرة، ولكن للأسف كما قال الشاعر:”لكل شيء إذا ما تم نقصان” لأن هناك خطأ على الغلاف الخلفي للبروشور “صخب” في تبديل وظيفتين، بتبديل صفتهما الوظيفية، وهو ثغرة كان من السهل تلافيها بنظرة واضحة قد يلقيها شخص غير متخصص، فمن البديهي أنه أمام صفة “عميد المعهد” كان يجب وضع اسم الدكتورة في المسرح الفرنسي المعاصر، أما أمام توصيف “المتابعة” كان ينبغي وضع الأستاذة خريجة قسم التمثيل!، خلل نتمنى تلافيه في العروض والفعاليات والأنشطة القادمة.
“صخب” يذهب إلى المرحلة القصوى في الضغط على الطلاب، لاختبار كل أدواتهم التي اكتسبوها في السنوات التي مضت من دراستهم، كالتنويع في طبقات الصوت والليونة وسرعة البديهة واللياقة البدنية العالية، ودمج الأداء الحركي مع الأداء اللفظي بما يجعلهما كلا واحد، حتى أن العمل على الممثل ذهب درجة تعامل الشخصية مع صوتها كشخصية أخرى، حيث أدى هذا التناغم الصوتي بين الشخصيات في أسلوبها وأدائها وكأنه هرموني مضبوطة سرعته بدقة عالية، مع مراعاة التنويع في المواقف والاشتغال على تهيئة الشخصية لكافة الاحتمالات التي يطرحها الحوار، ما يعني أن العرض نجح في تقديم اختبار قاس وصارم لهؤلاء الطلاب، واختبر فيهم وبكل طريقة حتى أصغر مفصل في جسدهم، وأبسط هنة في أصواتهم، الطلاب الذين نتمنى لهم التوفيق بما هم مقبلون عليه، كانوا هم البطل في العرض، البطل جميعا.

تمّام علي بركات