الفنون والقوة الناعمة
لطالما تم التعامل مع الفنون على أنها من أدوات الحرب الناعمة، ولا زالت حتى اللحظة تُعتبر من تلك الأدوات التي توظف لصالح الحرب وخدمتها بأفضل طريقة، وهذا ليس بالشأن الجديد علينا كعرب عموما، فنحن لا زلنا نحيا بين دفتي ديواننا الشعري العريق حتى ولو أنكر البعض ذلك، والقوة الحريرية حينها كانت القصائد الشعرية التي استخدمت بشعريتها العالية لإلقاء الرعب في قلوب الأعداء من قبل فنان الدولة وشاعرها الذي كان يُعتبر بمثابة وزير خارجيتها، كحال أبو الطيب المتنبي في قصيدته الشهيرة التي مطلعها “على قدر أهل العزم” وحدث أن القصيدة الشهيرة هذه أوقفت حربا، بعد أن ألقت الرعب في قلوب أعداء سيف الدولة، لأنها زاخرة بقيم شعرية عالية المستوى تشكلت بها صيغ وأساليب تفيض بالإمكانات التي وفرتها اللغة العربية للشعراء لان ينهلوا منها كل ظواهر الإبداع والتفرد.
“وقفت وما في الموت شك لواقف/كأنك في جفن الردى وهو نائم”
هذا وغيره من الأبيات الشعرية الفخمة اللغة والمخيفة بل التهويلية بما تتضمنه من تحذيرات للعدو بأنه ملاق حتفه وهذا لاشك فيه، هو ما تضمنته هذه الأداة الخطيرة من أدوات الحرب، وكم كانت النتيجة ناجعة.
وفي عصر انفتاح العالم على بعضه البعض تقنيا بوسائل الكترونية اختزلت المسافات وعملت على دمج الثقافات، وظهور ما صار يسمى بالقرية العالمية،أصبح ارتفاع الكلفة السياسية والبشرية والاقتصادية للعمل العسكري، وانفتاح الحدود أمام تدفق المعلومات والصور، كلها أمور رجحت أهمية العوامل غير المادية في الحساب العام للقوة التي باتت أكثر تعددية. نماذج سياسية جذابة، منها حيوية الإبداع الثقافي والفني، وما فيها من مبادلات رمزية وتدفقات معنوية تخاطب العقول والقلوب، فهذه الأدوات ومن يقف وراءها يسعى إلى تحقيق المصلحة الوطنية لبلده بوسائل غير عسكرية وغير مباشرة في العلاقات مع الكيانات الأخرى، عوضا عن تحقيقها بأعمال ذات طابع إكراهي قسري، غالبا ما تكون محفوفة بالمخاطر ومطوقة بحسابات إستراتيجية وتكتيكية دقيقة، لكن تحقيق نوع من النصر المستدام أو الامتياز بعيد المدى، فإنه يمر وفق منظّري القوة الناعمة، عبر مجموعة من الأدوات التي تجعل الفاعل المستهدف يلبي المطلوب منه دون أن يشعر بالبعد القسري لذلك، الأمر الذي يضع العلاقات تحت ضغط الفعل ورد الفعل، وحسابات الثأر والاحتراز والنفور والتقوقع والعداء. ومع تحول العالم إلى فضاء تواصلي مفتوح، تقع الحرب الذهنية، حرب الصور والتمثلات في قلب الرهانات المعاصرة للقوة الشاملة، التي تتجه أكثر فأكثر نحو طابع تعددي متكامل العناصر الخشنة، والناعمة، العسكرية والاقتصادية والثقافية.
هذه الحرب المعلنة صراحة كما هو لدينا، وغير المعلنة أحيانا أخرى، هي حرب متواصلة وتزداد استعارا بين القوى الطامحة إلى وضع يدها على العالم برمته بما لديها من أنواع قوة لا ترد، منها ما يندرج ضمن القوة الغاضبة، ومنها ما يندرج ضمن إطار القوة الناعمة، إنها مجموعة قوى نافذة تتسلل إلى البنيات، وتتمركز أساسا في المجال الثقافي: فنون وأنماط حياة وصور ذهنية، تصبح هي من يسيطر على الرأي العام وتؤثر في توجهه، لذا لا بد من معرفة كيفية توظيف تلك الأدوات في حربنا على التكفير والظلم والفساد، خصوصا وأنها تستطيع الولوج إلى مكامن النفس البشرية والعمل على تغيير طبائعها وأمزجتها.
وبما أن الثقافة التي هي من نتاج هذه الفنون وغيرها من الآليات والأنماط الاجتماعية طبعا، مرتبطة بالهوية (كيف ننظر إلى أنفسنا) وصناعة المعنى (كيف نحدد ما هو مهم) يبدو طبيعيا أن تلعب الثقافة دورا في مختلف النزاعات، سواء داخل المجموعات أو فيما بينها، لذا رأينا العديد من الأفلام والدعايات وحتى المسلسلات التلفزيونية التي عملت جنبا إلى جنب مع العدو في حربه علينا، خصوصا وأن القوة الكبرى التي يحرضها هذا العدو الأخطر –أي أمريكا- أنجزت الكثير من أعمالها الحربية اعتمادا أيضا على قوتها الناعمة إلى جانب تلك العسكرية، أيضا دعونا لا ننسى الميديا بأنواعها، والسينما والغناء والثقافة العامة وما يندرج في مضامينها، وكل ما من شأنه أن يرجح كفة أحد المتحاربين على حساب الأخر.
للأسف حتى اللحظة، يبدو مفهوم القوة الناعمة لدينا، وتأثيرها الأكثر من مباشر، غائبا عن الفكر التكتيكي والاستراتيجي لخوض تلك المعارك الثقافية بوجه خاص، ولهذا كتبنا والعديد من الزملاء في الصحف المحلية، عن ضرورة فهم هذه اللعبة جيدا، والتعامل معها كأداة فعّالة في الحرب، تسقط كحجر ثقيل في مياه راكدة، وتساهم وبشدة في لعب أدوار ذات تأثير لا يقل أهمية، عن تلك التي تقوم بها الآلة العسكرية، لكن الشكل التنفيذي لهذا المفهوم لم يرق حتى للتأثير بالجمهور المحلي، لسبب بسيط، ما صنعناه ونصنعه حتى اللحظة في مضمار القوة الناعمة، لا تأثير يُذكر له، ولا خطاب غير مباشر يوجهه إلى العدو وجماهيره، التي هي محراك تنور حربه كما يقال.
بالتأكيد أدلجة الفن، وجعله يضع ثقله في شأن جلل وخطير في الحرب، يبدو بعيدا عن طبيعة الفن بأنواعه نفسها، لكن النصر والدفاع عن الأوطان، يجب من أجل تحقيقه، توظيف ما يلزم لضمان حصوله، ومنها تلك الفنون، التي لم توفرها السلطات لا قديما ولا حديثا، وستبقى صاحبة الأثر الخفي والأكثر عمقا في الوجدان، في الحرب وقبلها وبعدها أيضا.
تمّام علي بركات