ثقافةصحيفة البعث

أكرم شريم.. المنهوب دائما وأبدا

من بين جميع أنواع الدراما التلفزيونية السورية، وهي أنواع يصعب تصنيفها عادة لأنها تختلط فيما بينها، هناك نوع يبدو واضحا ومتماسكا، إنه “البيئة الشامية”، فالأنواع الأخرى صعبة التصنيف، ماذا نسمي مثلا “غزلان في غابة الذئاب”؟ هل هو دراما عشوائيات وهو نوع شبه كامل العناصر؟ أم نسميها دراما مافيا وفساد؟ إن الولادة من الخاصرة يحقق النوع الأخير أكثر من سابقه، هل نقول الكوميديا الجوفاء وكلمة جوفاء اضطرارية لأنها بلا مضمون، مثل “أيام الدراسة” أو “فتت لعبت” أو الأعمال الركيكة التي كان يقدمها “أبو جانتي” وغيره مثل “كسمو”؛ لقد باد نوع عرفناه لسنوات وهو” الفنتازيا التاريخية” (جوارح-كواسر..الخ) وهو نوع لم يكن فيه لا فانتازيا ولا تاريخي، من أين حصل على التسمية لا نعلم، ربما من الأقمشة الملونة، التي كانت تنسكب من الجرار كشلالات، إننا مهما أضفنا إلى قائمة الأنواع ومحاولة إحصائها، نرى أن ولا واحدا منها يستطيع أن يتصف بمعايير ثابتة أو واضحة، ولذلك يلجأ النقاد إلى تسمية الأنواع أحيانا بكلام عمومي، من قبيل “دراما معاصرة” وذلك لصعوبة تحديدها. ولكن فقط “البيئة الشامية” هي من يمتلك معايير واضحة ومحددة كان قد اخترعها مسلسل “أيام شامية” فكيف فعلها الكاتب والسيناريست أكرم شريم؟.

قبل الإجابة لا بد من التأكيد على أن مسلسلي “أبو كامل”–فؤاد شربجي-علاء الدين كوكش” أو “بسمة الحزن” إلفة الأدلبي-لطفي لطفي- لا يمكن اعتبارهما انطلاقة لأعمال البيئة، تكفي الواقعية التي يتسم بها الأول ومحاولات كاتبه الجادة إلى تقديم نوع الشخصيات والعلاقات في زمن الاحتلال الفرنسي، هذا يكفي لإخراجه من نوع “البيئة الشامية”، أما العمل الثاني المأخوذ عن الروائية الكبيرة الراحلة “إلفة الأدلبي”، فإن الحداثة على مستوى الأدب، وبطولة امرأة للقصة، مع ذكر واضح للحياة الأدبية والسياسية في ذلك الزمان، وانتحار البطلة الذي يعني أن النهاية تراجيدية، كل ذلك يخرجه أيضا من نوع “البيئة الشامية”.

قد يظن البعض أن “حمام الهنا” –نهاد قلعي- خلدون المالح وفيصل الياسري- ربما يشكل بداية إرهاصات هذا النوع، ولكنه مقتبس عن رواية روسية “الكراسي الاثني عشرة” للكاتبين الروسيين -إيلفوبتروف- وفيه مضمون فكري رفيع ومعاصر، يحكي عن مسألة التأميم وضياع الكنز، وأيضا “صح النوم” –نهاد قلعي- خلدون المالح- نرى فيه صحفي وامرأة تمتلك فندقا وتحب وتأمر وتنهي، الأسباب السابقة تخرج العملين من نوع “البيئة”، إذا لا بد من القول والحسم في أن مسلسل “أيام شامية”، هو مخترع هذا النوع وواضع أسسه.

لقد فعلها الكاتب والسيناريست “أكريم شريم” كالتالي: لقد جلب عناصر ومهارات الحكاية الشعبية من مجتمعه “قلقيلية” الفلسطينية، صحيح أنه كان في الخامسة من العمر تقريبا، عندما كسبته دمشق، وذلك بسبب النكبة، غير أن الأعمام والأخوال والأهل، ينقلون معهم كامل ثقافتهم، ومنها جلسات القص الشهيرة، المعروفة عن الأشقاء الفلسطينيين في ليالي الشتاء، فالحكاية شقيقة ذلك الشعب، يكفي أن نعلم أن روائي بمستوى غسان كنفاني حقق كل ذلك الإبداع، مع أنه اغتيل في السادسة والثلاثين من عمره، أو أن نتذكر وائل زعيتر الذي عندما اغتيل في روما، كان يعمل على ترجمة “ألف ليلة وليلة” إلى الإيطالية،إن القصة شقيقة توءم للشعب الفلسطيني، بل إن تاريخهم الحديث بحد ذاته قصة.

الكاتب المزود بمهارات قصصية، والذي يرجع إلى منبت قصصي كريم، قام بأهم عملية “درامتورجيا” على مستوى الدراما التلفزيونية، فأتى بشخصيات وحبكة من الفضاء الفلسطيني، وقام بتوطينها في حواري دمشق، كما قام بتفصيلها على مقاس مدينة أخرى ذات عادات مختلفة، معتمدا على حبكة الحكاية الشعبية اللطيفة، والتي هي أقرب إلى حكايات الجدات التي تبعث على الهدوء والسكينة، وهي مشاعر لم يزل المسلسل قادرا على بثها حتى الآن، فوضع الحبكة في صراع محكم، يشكل مادة جذابة للجمهور الشعبي، وهي مسألة “الرجولية” ” الأمانة” وقام بربطها بالشوارب ورمزيتها في المجتمع الشرقي، فكان ضياع “الشوارب” هو بداية الصراع، والعثور عليها هو نهاية القصة، ولكي لا يدع تلك الرجولية الشرقية، خالية من المضمون والهم التاريخي، فإنه ابتكر صراعا هامشيا على مستوى القصة، وهو الثأر من الغريب المحتل، بعد أن تتعاون كل الحارة على ذلك، ورغم وجود المشاكل والخلافات فيها، غير أنها تختفي جميعها بلحظة، عندما تتعرض الحارة وأهلها إلى خطر خارجي مشترك.

جودة السيناريو والقصة التي يتضمنها، وصلت إلى درجة أنها أسست نوعا تلفزيونيا جديدا في الدراما المحلية، جعلت النص يتعرض إلى عمليات سطو في كل موسم درامي، تحت ذريعة أنهم يكتبون نوعا، وذلك من قبل كتّاب كثر وأعمال عديدة لذلك النوع. ولكن هل حقا يكتب هؤلاء في نوع اسمه “البيئة الشامية” أم أنهم يقومون بالسطو في كل مرة جديدة على “أيام شامية”؟ الإجابة قد تكون صعبة، وذلك بسبب رسوخ المعايير التي أسسها أكرم شريم في “أيام شامية” وضعف مستوى التجديد في نوع القصة، من قبل ثلة السطو، فهم في كل نص جديد “ليالي الصالحية-باب الحارة-أهل الراية…الخ” لا يفعلون أكثر من تبديل، شخصية “الفوال” فيجعلونها “حلاقا” أو يجعلون الزعيم بدلا من بائع تبغ وتنباك، إلى صاحب “بايكة” والضرة التي تسببت بمشكلة “الشوارب” كمصدر أنثوي للشر، صارت الأم الحاقدة التي تحرض ابنها على ابن عمه في مسألة “الزبدية الصيني” والتركي هناك يصبح فرنسيا هنا أو يعود تركيا، وهكذا.

لكن هناك فارق وحيد أضافته جماعة “السطو الدرامي” تلك، وقد يكون ذلك الفارق هو ما أوقف أكرم شريم عن الاستمرار في الكتابة ضمن النوع الذي يحسب له، وهو أنهم جعلوا الشخصيات البريئة، ابن البلد، الشخص الطيب الشجاع، الحكايات الحميمة التي يلقيها الحلاق في تحقيق مبدأ قصة داخل قصة، الشجاع الهارب من جريمة ارتكبها دفاعا عن أبيه، لكنه يبكي عند ذكر أمه، الحارة الواحدة الموحدة، التي تفتح أبوابها وقلوبها لابن الحارة الأخرى، بمجرد أن يعلم زعيمها بأن “القبضاي” فعل ما فعله من باب برّ الوالدين، المنجدّ الذي يعلم الفتية والجمهور معهم مبادئ “الكار” وآداب المهنة، والتي تصح على أي مهنة، مبادئ الصداقة الحقيقية، وغيرها من العناصر الغنية التي يتضمنها نص أكرم شريم، سوف تختفي ويظهر مكانها في النصوص المنتَحلَة، ما هو مختلف ومناقض، ستغدو الشخصيات في الأعمال المسروقة اللاحقة شريرة، والحارات منقسمة في عداء لا ينتهي، وهناك من يقف خلف الحائط ويتربص ويقتل، سنرى جرائم شرف ترتكب زورا، وعمليات قتل وإطلاق نار و”عواينية”.

نستطيع أن ننظر إلى أعمال “البيئة الشامية” كنوع، ولكن نستطيع أيضا، أن نفكر، بأنها لا تعدو عن كونها في حقيقتها، مجموعة نصوص مقتبسة من نص “أيام شامية” وهي إلى الآن لم تنجح بالتفوق عليه، ولم يزل هو الأفضل بكافة المقاييس.

تمّام علي بركات