ثقافةصحيفة البعث

.. سوى أمي

“لقد توفيت منذ دقيقتين.. وجدت نفسي هنا وحدي مع مجموعة من الملائكة وآخرين لا أعرف من هم، توسلت بهم أن يعيدوني إلى الحياة.. من أجل زوجتي التي لا تزال صغيرة وولدي الذي لم ير النور بعد، لقد كانت زوجتي حاملاً في شهرها الثالث مرت عدة دقائق أخرى، جاء أحد الملائكة يحمل شيئا يشبه شاشة التلفاز، أخبرني أن التوقيت بين الدنيا والآخرة يختلف كثيراً، الدقائق هنا تعادل الكثير من الأيام هناك، “تستطيع أن تطمئن عليهم من هنا”، قام بتشغيل الشاشة فظهرت زوجتي مباشرة تحمل طفلاً صغيراً، الصورة كانت مسرعة جداً الزمن كان يتغير كل دقيقة كان ابني يكبر، وكل شيء تغير، غيرت زوجتي الأثاث واستطاعت أن تحصل على مرتبي التقاعدي، دخل ابني إلى المدرسة، تزوج أخوتي الواحد تلو الآخر أصبح للجميع حياتهم الخاصة، مرت الكثير من الحوادث وفي زحمة الحركة والصورة المشوشة لاحظت شيئاً ثابتاً في الخلف يبدو كالظل الأسود، مرت دقائق كثيرة ولا يزال الظل ذاته في جميع الصور، كانت تمر تلك السنوات وكان الظل يصغر ويخفت، ناديت على أحد الملائكة، توسلته أن يقرب لي هذا الظل حتى أراه جيداً، لقد كان ملاكاً عطوفاً لم يقم بتقريب الصورة بل عرض المشهد بذات التوقيت الأرضي ولا أزال هنا قابعاً في مكاني، منذ خمسة عشر عاما أشاهد هذا الظل يبكي فأبكي.. لم يكن هذا الظل سوى أمي. قد يكون هذا النص- برأيي على الأقل- من أجمل ما قرأته عن الأم التي هي هكذا على الدوام، يبقى فقدان ولدها مهما مرت الأيام جرحاً أبدياً لا يندمل ولا”يطيب”، وكيف تنسى من لم تكف يوماً عن حمله معها، فمرة حملته في بطنها ومرة على يديها وعلى الدوام حملته في قلبها، فليكن الله في عون قلوب الأمهات.

في القلب.. تسكن أمي وتفرد “تفاصيلها” وقهوتها دون أي حرج ودون أي استئذان، تحتله وتعلن أنها الملكة الوحيدة لكل زواياه وثناياه، وإن حاولت أن أتذكر متى كان تاريخ هذا الإعلان أجدني عاجزة عن تذكر حتى يوم واحد، لم أكن بحاجة أكثر منها إلى أن تكون هي ملكة حياتي فقبلة واحدة منها كافية ليكون النهار جميلاً، وهي إعلان للبدء والحياة فهي كل الحب ومنتهاه وهي صنيعة الله وهبته على الأرض، وهي سلامي وأماني ومأمني وملاذي و”ملاكي وحبي الباقي إلى الأبد”، وهي التي جعلتني “أعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمعها” وهي من “علمتني كل شيء.. باستثناء العيش بدونها”..فليكن الله في عون قلوب الأبناء.

لا يمكن أبداً معرفة أيهما أقسى وأشد وجعاً أن يخسر الابن والدته ويقضي حياته يتيماً بلا عينيها وجبينها ويصبح عمره خريفاَ بدونها، أم أن تفقد الأم ولدها وتبكيه دماً ودهراً.. فليكن الله في عون قلوب جميع الأحبة.

لوردا فوزي

Comments are closed.