“أرجوك اعتنِ بأمي”
ربما لأن أقدامها صغيرة وخطواتها قصيرة مع مراعاة تعب السنين السالف قد أخرها في ذلك الزحام عن اللحاق بزوجها، ركب القطار والتفت لم يجدها، وهنا بدأت المفارقة الصعبة وربما كانت بداية عودة الوعي ليستذكر الجميع ما كانوا وما صاروا إليه.
تلك كلمات من وحي رواية “أرجوك اعتنِ بأمي” للكاتبة الكورية “كيونغ سوك شين” قرأتها لمناسبة عيد الأم – مع التأكيد أنها تصلح لكل المناسبات- علها تساعدني في ترتيب بعض الأفكار، لكن الذي حدث أنها بالرغم من بساطة الأسلوب الذي اتبعته الكاتبة هزتني بكامل كياني، فعمق العواطف الذي كمن بين الكلمات كان صادماً، وكثرة الأسئلة التي تطرحها على نفسك أثناء الرواية وبعد انتهائها مفاجئاً، “ماذا لو كنت أنا هكذا؟!”، الرواية لا تتحدث عن موت الأم بل عن اختفائها حيث ظن أفراد أسرتها أنهم فقدوها في تلك اللحظة ليتبين لهم فيما بعد أنهم أضاعوها منذ زمن حتى أصبح وجودها باهتاً في حياتهم.
سؤال لم يفارقنى طوال قراءتي “هل علينا أن نفقد من نحب لكي ندرك قيمته في حياتنا، كيف سنعيش بعد فقدانهم وكيف لنا أن نسترجع ذكرياتنا الجميلة والمريرة معهم في آن واحد، فكيف إذا كانت تلك المفقودة هي “أمك” شعور التقصير وتأنيب الضمير ولوم النفس من أكثر ما يسيطر على المرء. ستطرح على نفسك أسئلة أخرى هل أمي تحب الطبخ فعلاً؟ أم أنها تفعل ذلك لإرضائنا؟
سمعت أحدهم يقول مرة إن مملكة الأم هي المطبخ، أتذكر بأني غضبت من هذه الجملة لأني اعتقدت فيها إهانة لي أنا التي لم تتزوج بعد، كيف تحصرني في ذلك المكان، الفكرة بمجرد ذكرها فقط كانت قد أرعبتني، اليوم أعود لأتساءل ما كان شعور أمي التي كانت تقضي في ذلك المكان أغلب ساعاتها معتبرين إياه مكانها ووظيفتها. نحن مرضنا وعانينا من الأوجاع لكن هل انتبهنا يوماً للحرق الذي في يدها أو للأوجاع في ساقها أو لآلام رأسها، يبدو أننا نتعامل مع الأم وكأنها كائن لا يمرض.
نتألم من الحياة ومشاكلها ونعاند تياراتها وتصيبنا في أغلب الأحيان قسوتها فنعود إلى حضن الأم الذي لطالما حاولنا التمرد عليه عندما كانت توبخ وتوجه وتسدي النصائح فنقول “ماما” هذه الكلمة المريحة والتي ينطوي فيها توسل خفي: من فضلك اعتني بي، من فضلك ربتي على رأسي، من فضلك قفي بجانبي سواء كنت على خطأ أو صواب.
نحن نعتاد تلقي الحب دونما الاهتمام بإعطائه إلى حد التغافل بأنه قد ينقطع يوماً بفقد صاحبه، “أمي” حقيقة وأنا أكتب هذه الكلمات.. هي معاناتي الأولى ومعاندتي الأساسية، هي حبي النقي رغم المسافات بيننا، رغم التصرفات التي لا أقول أني مثلها لكنني في أعماق نفسي أحاول التشبث بصورتها ومحاكاتها، أمي هي الروح التي لا تنفك عني ويغمرني دوماً إحساس الطفولة عند مشاكستها، أحياناً تتملكني الرغبة في أن أكون أخرى لأرضي رغباتها، لأصبح مقاساً ملائماً لتطلعاتها ولكن لا تنفك عني طبيعتي المختلفة فأعود كما “كنت”.
في نهاية الرواية لم يُعثر على الأم، لكن الفتاة وجهت رسالة لتعوض فيها عن فقدها، عن ذنبها لضياع تلك السنين، لبعثرة تفاصيل كثيرة كانت تعتبرها أشياء من المضمون بقاءها لم تدر أن القدر سيعاقبها على أنها هي وأخواتها قد اعتبروا نبع الحنان والعطاء من المسلمات، وعندما لا ينفع شيء وعندما أُسقط في أيديهم وغدت كحلم تبخر، طلبت من الله “أرجوك اعتنِ بأمي”.
علا أحمد