ثقافةصحيفة البعث

البوصلة

في فيلم “أم” الذي أنتج في العام 2017 يعرض كاتبه ومخرجه دارين أرنوفيسكي، لحكاية زوجين يعيشان في عزلة عن العالم، زوج أديب بدأ الجفاف يجتاح قلمه وأفكاره وانقطع عنه الوحي، وزوجة وقفت نفسها وحياتها للعناية بالمنزل؛ كل أوجه العناية ؛ من أبسطها وصولاً إلى أعمال الترميم وإعادة بناء ما تهدم ودُمّر أثناء الحريق الذي كان أصابه سابقاً.

كل ذلك بغية توفير الظروف والأسباب المناسبة لعودة الوحي إليه، وعندما يطرق غريب الباب يوماً ويحل ضيفاً رغم معارضة الزوجة للأمر، وتلحق به عائلته، إثر ذلك تتسارع الأحداث المخيفة وغير المنطقية لتتحول إلى مشاكل تتفاقم وتتشابك ما يحيل منزل الزوجين الهادئ إلى ساحة صراع أساسها الاختلاف في رؤى الزوجين.

زوجة تبحث عن حياة هادئة في جنتها الخاصة، وزوج يدفعه شوق إلى الكتابة وبحث عن شعلة لإحياء قلمه، يوصله إلى منعها من التدخل عندما بدأت بوادر المشاكل تعصف بالبيت، وتنذر بدمار كامل ووشيك الحدوث، تقرر في النهاية أن تنتقم لخسارتها ممن عاثوا بجنتها فساداً ولمن قتل وليدها بأن تولع النيران في المنزل بمن فيه لتحترق مع الجميع، وفي اللحظة الأخيرة تسمح للزوج بالحصول على الشيء الوحيد الذي بقي ينبض بالحياة في صدرها، ذلك الذي سيتحول إلى جوهرة كتلك التي حطمها الغريب الوافد إليهم في بداية الحكاية والتي هي دعامة بنيان الجنة الصغيرة.

بعيداً عن التأويلات الدينية والدلالات الفلسفية للفيلم السوريالي الذي يبحث في مغزى الوجود وتعقيدات النفس البشرية، وما جنح إليه صاحب الحكاية من تأويل أنثوي لهذا العالم المجنون، تظهر الأم كناية عن بعد النظر والوعي المفرد في الفيلم، تفسير يتعدى ظاهر القصة على أنها قضية خلاف في تطلعات زوجين معزولين عن العالم المحيط بهم.

وفي فيلم الأم لباسل الخطيب الذي رغم ذاكرتنا التي راكمت فيها سنوات الأزمة صوراً أقل سماتها الكارثية، قدم صورة أخرى للأم، منبتها هذا الواقع، أم تحاول بكل قواها أن تتعالى على الألم الجسدي والأذى المعنوي الذي نال منها ومن عائلتها وسواهم من أبناء البلدة، لتكون في النهاية الصفعة التي نستحق على وجوهنا عندما نترك للتفاصيل الحياتية الصغيرة أن تأخذنا وتعمي بصائرنا عن أساسيات لا ينفعنا ندم حين نفقدها. هكذا يبدو الأبناء الذين بعثرتهم مواقفهم وولاءاتهم المتباينة، لا يدفعهم إلى التعالي على الأمر سوى مأساة رحيل الأم.

في أبسط دلالات الفيلم الأول صورة للأم مانحة للحياة صانعة للجنة وبانية لما يهدمه الآخرون، ومعطاءة رغم كل الويلات التي تحيق بها.

في فيلم الخطيب دلالة لعلها الأهم هي ما صوّره من أحاسيس لعلها الأكثر نبلاً، وتجسيده للرابط المتجذر بالأم، ذلك الذي ينسحب في التفسير والتأويل ارتباطاً بالأم في معناها الأشمل؛ هي البوصلة التي أضاعها الكثيرون على هذه الأرض، الأم الأولى سورية، على أمل أن يتبينوا الطريق قبل فوات الأوان.

بشرى الحكيم