“الغوطة”.. وما بعدها
ربما كانت “الغوطة”، بموقعها الجغرافي ورمزيتها السياسية، الأغنى في دلالاتها، المباشرة وغير المباشرة، على تحوّلات الحرب الدائرة، في سورية وعليها، سواء في وقائعها الماضية التي رسمها حكم الإرهاب المدعوم إقليمياً ودولياً، أو في مآلاتها، التي نعيشها اليوم، بعد استعادتها إلى حضن الدولة السورية.
والحال فإن دلالات “الغوطة” في هذه الحرب، التي تقرّرت في أروقة مقر حلف شمال الأطلسي الذي بدأ ، منذ عام 2010 ، في الإعداد “لتشكيل جيش لتحرير سورية” في “سياق حربه التاريخية على روسيا وعلى حلفاء روسيا، كما أكد وزير الخارجية الفرنسية الأسبق رولان دوما في تصريح مشهور، تتجاوز جغرافيتها الصغيرة ومعها الجغرافيا السورية الأكبر، لتمتد على مساحة المجال الجيواستراتيجي الإقليمي والدولي راسمة خطوطاً فارقة بين ما أراده البعض وما حصل على أرض الواقع.
فكما كانت “الغوطة”، مع غيرها من المناطق السورية، محط رهان كبيراً لترسيخ معادلة سياسية سورية وإقليمية ودولية تقطع الطريق على القادم حكماً، كانت استعادتها إلى كنف الدولة السورية أحد أبرز الدلائل على أن المعادلات السياسية تُصنع في الميدان لا في أي مكان آخر، فأمام كل التهويل والتصعيد السياسي والإعلامي بـ”الويل والثبور”، سواء على مستوى مجلس الأمن الدولي أو منظمات الأمم المتحدة المختلفة، كان القرار الروسي الذي أُعلن في بداية الأزمة “بأن مجلس الأمن لن يكون ممراً لقرارات الناتو وإسقاط الأنظمة”، يؤكّد جديته الكاملة، وأمام كل التهديدات الأمريكية والفرنسية بالضربة الحتمية القادمة على خلفية “تمثيلية كيماوية” ما، وكان قرار الصمود والمواجهة السوري المدعوم من الحلفاء واضحاً لا ريب فيه، ليثبت مرة جديدة أن فائض القوة الإجرامي الذي يملكه البعض لا يكفي وحده لإدارة العالم وحكمه، حين تتضافر الإرادة الوطنية مع الإمكانيات اللازمة إلى جانب الاستعداد الكامل للتضحية دون حدود في سبيل حفظ حدود الكرامة.
وبالطبع لا يجدر بنا التغاضي في هذا السياق عن رمزية “الغوطة” المكانية كمنصة انطلاق مفترضة نحو دمشق، كان لإسقاطها توابع عدة، أولها، إغلاق تلك البؤرة التي طالما شكّلت ثغرة استراتيجية في خاصرة العاصمة، وبالتالي إخراجها كورقة جدية من يد فريق الحرب على سورية، وثانيها، انهيار منصة هامة للتشويه الإعلامي وجبهة مركزية في الحرب الإعلامية وسقوط رهان بعض المسلحين على الخارج، سواء من نصحهم بالثبات لأن الدعم السياسي والمالي قائم، أو من وعدهم بالنصر لأن الضربة العسكرية قادمة.
بيد أن لمعركة الغوطة ميزة هامة تميّزها عما سبقها من المعارك على امتداد الجغرافيا السورية من حيث أنها تكاد تكون المعركة الأخيرة في معارك الوكلاء، ما يعني، لاحقاً، اضطرار الأصيل إلى النزول بنفسه إلى الميدان إذا أراد استكمال الحرب، وبالتالي عليه تحمّل الخسائر الميدانية مباشرة، وذلك هو التحدّي المقبل والصعب أمام فريق “الناتو”، فيما سيتفرغ الوكلاء للمعارك التي ستتوالى فيما بينهم – وهو ما تنذر به اتهامات الخيانة وبكائيات التخلي التي نسمعها اليوم بين حلفاء الأمس القريب، كما تفسر خشية أحد فصائل “الغوطة” من التوجه إلى ادلب- استكمالاً للصراع بين المشغّلين الخارجيّين على نفوذ سياسي وميداني فوق “حصة” جغرافية تضيق باستمرار وسيأتي يوم تختفي فيه بالتأكيد.
ويبقى أن الرافعة الحقيقية لـ”تثقيل” نصر الغوطة واستثماره بالشكل الأمثل، تتمثّل بالعودة السريعة للدولة، أجهزة ومضموناً، إلى مدن “الغوطة” لبناء الحجر والإنسان في الآن ذاته، عبر خطة إعادة إعمار “تنموية، خدمية، عمرانية، تنظيمية، استثمارية، شاملة للغوطة”، كما أقر مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة، والأهم تأمين العودة الفورية للأهالي إلى منازلهم في أسرع وقت ممكن، لأن في هذه العودة السريعة والكريمة يكمن مضمون الانتصار وتتظهّر جدواه الحقيقية.
أحمد حسن