شــيوخ الفتــن والاســتدراج إلــى المهــاوي
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
لعل أخطر ما يمكن أن يواجهه العقل البشريّ هو استدراجه إلى فخّ ما كان ليقع فيه لولا هذا الاستدراج، وحين نقول “فخاً” فهذا يعني أن عملية الاستدراج من بدايتها لم تكن عملية بريئة.
وكم من إنسان على وجه هذه الأرض وجد نفسه في لحظة ما وقد تورّط في علاقة مع إحدى المافيات, حين وجد أن هذه العلاقة تدر عليه منفعة استثنائية، لم يكن ليحصل عليها خارج إطار هذه العلاقة, فوجد قدميه ينزلقان ليصير عضواً في تلك المافيا, ويجد نفسه, ولكن بعد فوات الأوان, قد بات طرفاً في لعبة خطرة يعاقب عليها القانون، والأهم أنه بات مطالباً من قبل المافيا بعمليات تعرّضه للخطر. وهنا تصبح مشكلة الخلاص بالنسبة لهذا الإنسان متعذرة, ليس فقط لأنه بات مثقلاً بذنوب تعرّضه للعقاب القانوني, ولكن أيضاً لأن المافيا التي انتسب إليها لن تسمح له بمغادرتها, وإن فعل ذلك أو حتى فكر بفعل ذلك، فإنها سرعان ما تعمد إلى تصفيته بتهمة “خيانة الأمانة”, أو بالأصح لأن ما تعتبره ضعفاً لديه أدى إلى النكوص يمكن أن يجلب لها الأذى بعد أن بات عارفاً ببعض أسرارها ومفاصلها، وقد تعمد في مثل هذه الحالة إلى تكليفه بعمل يؤدّي إلى نهايته, فإذا لم يمتثل لأمرها وينفذ عمدت إلى تصفيته، وهكذا يجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر: فإما أن يغامر ويقتل وإما أن يمتنع ويقتل.
إن الحالة في التنظيمات الإرهابية التكفيرية لا تختلف عملياً بشكل جوهري عنها في المافيات سوى في شيء واحد, وهو أن الاستدراج في حالة المافيات يأخذ المرء إلى إفساد غايته التربّح, ويعرفُ من يذهب إليه مسبقاً أنه “مُدَنّس”, وأما بالنسبة للجماعات الإرهابية التكفيرية فإنها تدّعي منذ البداية أن الإفساد الذي تمارسه تحت مسمّى “الجهاد” هو جهاد مقدس ، في حين أنه عملياً ليس جهاداً وإنما إفساد، وليس مقدساً وإنما عدوان.
وهذا ما يجعل الوقوع في شراك هذه الجماعات أكثر يسراً وسهولة، ومن هنا نفهم سرّ النمو المتواصل لهذه الجماعات رغم ما تواجهه من عقبات، ولكن هذا وحده ليس السبب وراء نموها السرطاني, إذ أن المنطق العملي يفرض علينا أيضاً أن نفكر بما يُهيّأ لها من المحفزات ومن التسهيلات, إذ أنه لولا هذه المحفزات والتسهيلات لما كان بوسعها تصعيد إرهابها إلى ما بلغته من مستويات.
لكن قبل أن نتحدث عن المحفزات والتسهيلات هناك مسألة جوهرية لا بد وأن نضعها في الاعتبار, وهي أنه في كل هذه التنظيمات – دون استثناء- وعلى غرار المافيات والجماعات الماسونية السرية, هناك شيء اسمه “البيعة” للأمير أو السيد، وهذه البيعة توجب على من يبايع الطاعة, وتنفيذ كل أمر يصدر إليه مهما كان مضمونه, فإن امتنع عن التنفيذ، أصبح قتله حلالاً من وجهة نظرها، والبيعة على هذا النحو هي في التحليل النهائي نوع من العبودية التي يرتضيها الشخص لنفسه, بل هي أسوأ من العبودية.
فعبودية الرقيق لا تعطي لمالكه دينياً أو قانونياً حق قتله إذا ما خرج على الطاعة, أما في مثل هذه الجماعات فالمسألة مختلفة، وبالتالي, فإن المشكلة ليست فقط مشكلة الوقوع في فخ، بل أسوأ من ذلك.
والغريب أن هذا قد حدث منذ زمن بعيد ولا يزال يحدث رغم أن الخالق عز وجل حذر المؤمنين منه مراراً, ومن ذلك قوله عز وجل [ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب] (البقرة 165). كما يقول تعالى [وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين+ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون+ وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون] (العنكبوت 11- 13). فما بين “الأمير” الذي يبايعون ويلتزمون له بالطاعة وبين “الشرعي” الذي يفتي لهم فيجيز لهم ما يقترفون تدور هذه العملية الرهيبة التي يستغل فيها الإنسان المتورّط أسوأ استغلال.
إن النقطة الأساسية الجوهرية التي يجب أن نضعها في اعتبارنا ونحن نناقش أي ظاهرة سياسية, وظاهرة التنظيمات الإرهابية التكفيرية هي في جوهرها أيضاً ظاهرة سياسية, وإن اتخذت كغطاءٍ لها طابع الظاهرة الدينية, هي أنه ما من تنظيم ينشأ على سطح الكرة الأرضية إلا وله مصدر تمويل، وبقدر ما يكون هذا التمويل كبيراً بقدر ما تكون إمكانية نمو التنظيم الذي يحظى به أكبر، وهذه قاعدة عامة لا يستطيع أحدٌ إنكارها, وإن فعل فهو كاذبٌ ومراوغٌ يحاول أن يحجب الشمس بالغربال.
فالنشاط التنظيمي, وخاصة إذا تضمن نشاطات عملية تقتضي التفرغ الكلي, هو مثل كل مشروع اقتصادي على وجه الأرض لا بدّ وأن يكون رأس المال من مقوماته الأولى والأساسية التي لا يمكن للعمل أن يتم بدونها، بينما يمكن للمشروع الاقتصادي الاستثماري أن يحقق بعد فترة ما من انطلاقه ريعيّة مالية تجبي له الربحيّة, وتؤمّن له الاستمرارية, فإن التنظيمات السياسية تحتاج إلى تمويل دائم يتزايد مع تزايد نموها وانتشارها, فكيف إذا كانت هذه التنظيمات تحمل أيضاً الصفة العسكرية وتضمُّ مقاتلين متفرغين, وتنخرط في عمليات قتالية؟. وكيف إذا كانت هذه التنظيمات زيادة على هذا العبء التعبويّ والعملياتي, تؤدّي عمليّاً دور الهدّامين المدمّرين وليس دور البناة المعمّرين؟. فمن أين تأتي هذه التنظيمات بالمال والسلاح؟.
إن مجرّد طرح هذا السؤال من شأنه أن يثير إشكالية كبرى حول الشرعية الدينية التي تدّعيها هذه التنظيمات, لأنه مهما كانت ادعاءاتها بصدد مسألة التمويل والتسليح والتموين وغير ذلك من التسهيلات والخدمات المقدّمة لها, فإنها لا تستطيع أن تزعم نقاء المصدر وإسلاميته وفق معاييرها القائمة أصلاً على تكفير جميع المجتمعات دون استثناء واعتبارها جاهلية. فإذا هي زعمت أنها تعتمد حصراً على إحسان رجال المال المسلمين الأثرياء.
وقبل أن نناقش صحة مضمون هذا الادّعاء الذي ينقضه واقع الأشياء, يحق لنا أن نتساءل: وهل رجال المال المحسنون هؤلاء جزءٌ من مجتمع إسلامي مبرّأ من “الجاهلية” وفق نظرتهم هم للمجتمعات الإسلامية, وتبريرهم هم لما يلحقونه بهذه المجتمعات من الأذى؟ فإذا كان مبرّأ من الجاهلية سقطت حججهم تجاه هذا المجتمع, ووجب أن يتخلوا عن مشروعهم لمحاربته, وأما إذا تمسّكوا بهذه الحجة, وأصرّوا على اتهام المجتمعات الإسلامية بالجاهلية, حق لنا أن نسألهم: أليس من المثير للريبة أن يكون مَن يستغلون هذه المجتمعات الجاهلية من رجال المال الأغنياء, الذين يلعبون دور مصّاصي الدماء, هم السند لتلك التنظيمات التي تسفك بدورها الدماء, بينما فقراء هذه المجتمعات الخاضعون للاستغلال هم في نظرها الجهال, ولكن هؤلاء الفقراء الجهال يكفون عن أن يكونوا كذلك في حالة واحدة فقط تتمثل بالالتحاق بتلك الجماعات بإغوائهم من قبلها بالمال, مثلما تتمثل في “البيعة على الطاعة”, أي في قبول مقام العبودية لمن يقودون مثل هذه العصابات لقاء ما تدفعه من مخصصات؟!.
إن المال أقرب إلى أن يكون أداة الشيطان من أن يكون أداة أصحاب الإيمان، وإذا تجاوزنا هذه النقطة, وسلمنا معهم بأن المال يأتيهم من أصحاب الإحسان, وغضضنا النظر عن كل ما نعرف حول المصادر الشيطانية للتمويل, فإن هناك سؤالاً آخر لا بد وأن ينتصب أمامهم، فإذا تبرع المحسنون بالمال, وكانت حساباتهم عامرة بأموال “لا تأكلها النيران” وتغطي احتياجات مئات الآلاف من المقاتلين, وهم بنقصها غير مكترثين, فهل لدى هؤلاء “المحسنين” أيضاً ترسانات من الأسلحة يخرجون منها ما يشاءون لتسليح تلك الجماعات دون أن يعترض سبيلهم أحد من المخلوقين أو الكائنات؟, أم أن هذه الأسلحة مصدرها حكومات, وكل هذه الحكومات متهمة بأنها جاهلية أو معادية للإسلام؟.
إذا غضضنا النظر عن مصادر المال, واستمرار تدفقه, ونفينا وجود شياطين التمويل, وادّعينا أن إسهام هؤلاء الشياطين في لعبة التمويل مستحيل, فهل نغض النظر عن مصادر التسليح؟.
إنها جماعات أو تنظيمات تزعم أنها موهوبة لله, مبرّأة من الشرك والجاهلية, متمرّدة على الواقع الذي يعيشه المسلمون في جميع أقطارهم, وتكفّر حتى ضعفاء المسلمين بتكفير المجتمعات ككل, ولا تبرّئ عملياً إلا من يسهم في تمويلها من مصّاصي الأموال, لا تستطيع إثبات براءتها بينما تحمل أسلحة مصدرها أميركي أو إسرائيلي أو أوروبي غربي, خرجت من مصانع هذه الجهات للتو, أو جرى تصديرها لصالح هذه التنظيمات للتو, كما تدفع مخصصات أو رواتب المسلحين فيها بالدولار الأميركي الذي يتدفق باستمرار, عدا عن أن هذه العصابات تحمل أجهزة اتصال مرتبطة بمن يفترض أنهم أعداء, وتضمن التواصل مع غرف عمليات يجلس فيها ضباط منهم الأمريكي ومنهم الإسرائيلي ومنهم غير ذلك, مثل غرفتي الموك في عمان والموم في تركيا.
لا نظن أن أموال “المحسنين” تستطيع أن تُغوي الكفار المارقين فتجعلهم يبيعون السلاح لصالح تلك الجماعات، كما أن العالم يعرف الآن بأن الأمريكيين قد أنفقوا على تلك التنظيمات مليارات الدولارات, عدا عما أنفقته حكومات مثل السعودية وقطر وزاد – وفق اعتراف حمد بن جاسم – في استهداف سورية وحدها أكثر من 137 مليار دولار, وهو رقم يكشف هوية الممولين ونفي أكذوبة المحسنين. كما أنه بات واضحاً تماماً الآن أن الصهاينة قدموا ويقدمون المساندة لهذه التنظيمات، فهل بات هؤلاء “الأعداء” هم حصنُ الإسلام الحصين ودرعه المكين أم أن هذه الجماعات تؤدّي دور المرتزقة في خدمة هؤلاء الأعداء؟.
لا نظن أن هناك من يستطيع أن يزعم بأن غرف الموك والموم وما على شاكلتها معنية بخدمة الإسلام والمسلمين, أو أن هذه الغرف معنية بقيادة مجاهدين إسلاميين حقيقيين, فإن ادّعوا غير ذلك فهم حتماً من الكاذبين المزورين الذين لا يستطيعون نفي حقيقة الدور الذي يلعبون، لأن نجدة الإسلام والمسلمين لن تأتي على يد الأمريكيين أو الإسرائيليين أو من سار خلفهما صاغراً من العملاء المنحرفين المارقين.
في لعبة الشدّ والجذب والاستقطاب, التي هي واحدة من أشكال وأنماط ما تعجّ به الأرض من الألعاب العابثة, يمكننا أن نتصوّر ذلك الإنسان البسيط الذي نصبوا له فخاً لاستقطابه باسم الدين ليصير جزءاً من لعبة كبيرة يجهل حقيقة ما تنطوي عليه من ألعاب كبيرة، لكن حين ننظر إلى المشهد نظرة كلية, فإن الصورة الحقيقية لا بد وأن تتغير وتتبدل، فالممسكون بزمام من استقطبوا ليكونوا “مجاهدين إسلاميين” هم أعداء الإسلام والمسلمين. ومن يقع في شراك تلك التنظيمات يكون قد جُنّدَ ضدّ نفسه, سواء أدرك ذلك لاحقاً أو بقي من الغافلين المستغفلين، ومن بين هؤلاء, بل إن معظم هؤلاء, من باتوا عملياً متورطين, فلا هم قادرون على العودة إلى حياتهم العادية في البلدان التي جاءوا منها نادمين آمنين, ولا هم قادرون على الفكاك من قبضة الآلة التنظيمية الجهنمية التي حوّلتهم إلى مفسدين، ولقد وقعوا في المصيدة, وليس لهم منها فكاك, حتى وإن فكروا بالانفكاك.
لقد كان الانزلاق في البداية سهلاً, إذ سوّل لهم الشيطانُ أنهم إذا التحقوا بصفوف تلك الجماعات, صاروا من “فرسان الإيمان”, ولكنهم في الحقيقة تحولوا إلى “فرسان للإذعان” أو إلى “فرسان للخوّان”، وإذا كنا نتحفظ بأن نقول بأنهم كفروا يوم كفّروا الآخرين, فلأننا نعرف مقدار النهي الإسلامي عن تكفير الآخرين, وإن مشكلتهم المستعصية الآن تكمن في حقيقة أنه بات من المستحيل أن يتلمس أحد لهم العذر بأنهم يجهلون كونهم واقعين في قبضة الشيطان، بل إن سلوكهم العمليّ خلال السنوات الماضية أثبت أن تعاملهم مع شياطين الإنس بات معلناً, وأنهم باتوا يراهنون على هذا التعامل بالذات، فشياطين الإنس صاروا بالنسبة لهم مركب الإنقاذ الوحيد الذي يعتمدون عليه، فإذا عدّوا في البداية متورطين مخدوعين, فإنهم في اعتمادهم على شياطين الإنس الآن لم يعودوا متورطين ولا مخدوعين, وإنما تحولوا إلى أولياء للشياطين.
إن مشكلة الانحراف هذه ليست جديدة, بل هي قائمة منذ بدأ تجنيدهم للقتال في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي, حيث سخروا في خدمة الأمريكيين ضد الاتحاد السوفيتي، ثم وجدناهم يوظفون في التسعينيات كطرف في تمزيق يوغوسلافيا وإثارة المذابح فيها, مثلما وظفوا في استهداف روسيا الاتحادية، وبعدها كان استهداف الجزائر, ثم جاء دورهم في مؤامرة “الربيع العربي” ومع أنهم زعموا منذ البداية أن غايتهم محاربة الأمريكيين والصهاينة إلا أن الواقع يقول بأنهم إنما يحاربون لحساب الأمريكيين والصهاينة.
في أواخر العام 2001, وفي كتابه “الوصية” المنشور على حلقات في جريدة “الشرق الأوسط” التي تصدر في لندن, كتب د. أيمن الظواهري يقول: “إن تتبع الأمريكيين واليهود ليس عملاً مستحيلاً, وإن قتلهم بطلقة رصاص, أو طعنة سكين, أو عبوّة من خليط شعبي, أو ضربهم بقضيب من حديد, ليس أمراً مستحيلاً، وإن إحراق ممتلكاتهم بزجاجات المولوتوف ليس أمراً عسيراً، وإن المجموعات الصغيرة بالوسائل المتاحة يمكنها أن تشكل رعباً مفزعاً للأمريكيين واليهود”!.
دعونا نقول أولاً: إن تنظيم القاعدة حين كتب الظواهري هذا الكلام لم يكن مجرداً من السلاح كما قد يفهم من يقرأ ما كتبه عن الأدوات البسيطة التي يمكن اتباعها في مواجهة اليهود والأمريكيين، ومع ذلك, كنا نتمنى لو أن “مقاومين مسلمين” واجهوا الصهاينة والامبرياليين الأمريكيين بمثل هذه الوسائل البسيطة من أساليب المقاومة, لكن هذا لم يحدث, ولا شيء على الإطلاق يدل على أنه يمكن أن يحدث من قبل هذه التنظيمات التكفيرية. وها قد مرّ عقدان من الزمن على كتابة الظواهري لهذا الكلام دون أن نرى من إرهابييه تنفيذاً لهذا النهج في مقاومة الأمريكيين واليهود, بل كان سلوكهم على العكس من ذلك هو القتال لحساب الأمريكيين والصهاينة.
ففي الوقت الذي كتب فيه الظواهري هذه “الوصية” كانت القاعدة قد سيطرت على الشيشان قبل أن تفقد هذه السيطرة بعد ذلك, وكان الإرهابي الأردني خطّاب قد وجد أن الشيشان أقرب إليه من فلسطين فذهب ليقود “المجاهدين” هناك بهدف فصل الشيشان عن روسيا بدلاً من أن يجاهد في فلسطين, تماماً مثلما فعل عبد الله عزام الفلسطيني من قبل، فترك فلسطين خلفه وذهب للجهاد في أفغانستان، وفي تلك “الوصية” كتب الظواهري قائلاً: “إن تحرير القوقاز المسلم سيؤدي إلى تفتيت روسيا الفيدرالية, والى تصاعد حركات الجهاد الموجودة فعلاً في جمهوريتي أوزبكستان وطاجيكستان اللتين تدعمهما روسيا ضد تلك الحركات” “وتفتيت روسيا الفيدرالية على صخرة الحركة الأصولية بأيدي مسلمي القوقاز ووسط آسيا سيسقط حليفاً أساسياً لأميركا في مواجهة الصحوة الجهادية الإسلامية”!.
وهكذا, فإن الظواهري في تعقبه للأمريكيين واليهود وجد نفسه يبدأ بروسيا الاتحادية زاعماً أنها حليف أميركا الأساسي, ومَن مِن البسطاء والسذج سيقف متسائلاً عن مدى صدقية كلام الدكتور أيمن حول العلاقة بين روسيا وأميركا, لأنه سيسأله ما إذا كانت إسرائيل أكثر قرباً إلى أميركا من روسيا أم لا, ثم ينتقل إلى استهداف “قلب العالم الإسلامي” متمثلاً بسورية, فهو لا يستطيع أن يتناول اليهود بخنجره أو رصاصته أو قضيبه الحديدي ما لم يدمر سورية أولاً، ولدرجة أنه نجح في أن يضلل العديدين من عرب الجزء المحتل من فلسطين منذ عام 1948, والذين يستطيعون النكاية باليهود الصهاينة بمثل تلك الأدوات البسيطة لو طلب منهم الظواهري ذلك بعد أن بايعوه, فإذا به يرسلهم عبر تركيا لاستهداف سورية.
إن مثل هذا اللون من التضليل والإغواء وفقدان البوصلة, بحيث يتكلمون عن محاربة طرف فإذا بهم يحاربون لحسابه, هو النتاج المنطقي لأسلوب التنظيم القائم على “البيعة” والذي يوجب “الطاعة”, ويفرض على المنتسب إليه أن ينفذ أيّ أمر يصدر له, بدعوى أن هذا الأمر “شرعي” دينياً, وأن المأمور لا يتحمل وزر ما ينجم عن تنفيذ هذا الأمر في الآخرة, بل إن الآمر هو من يتحمل الوزر في حال الخطأ.
ثم إن الظواهري وجد في نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي ومأثرتهما بمواجهة الصليبيين بتوحيد سورية ومصر نموذجاً يتكئ عليه, ولكنه بالمقابل لم يذكر ولم يتذكر نماذج دول الطوائف في الأندلس, وحروب أسلاف العثمانيين من السلجوقيين واستهدافهم للخلافة العباسية ولحكم المماليك في مصر, وإفساد بعض القبائل البدوية على غرار إفساد الإرهابيين في هذا العصر, في إضعاف المشرق العربي ومشاغلته أولاً, وفي تقويض الحكم العربي الإسلامي في الأندلس ثانياً, فما أسهل أن يختار من يُدلّس على الناس المثال أو النموذج الذي يخدم فكرته ويلقي بستائر كثيفة على كل الحقائق الأخرى, ومن هذه الحقائق تلك المؤامرات التي استهدفت منع الوحدة بين سورية ومصر بعد تحقيقها عام 1958, سواء جاء ذلك من خلال مؤامرة الانفصال, أو من خلال إشغال مصر في حرب اليمن, أو من خلال عدوان حزيران عام 1967, أو من خلال اتفاقيات كامب دافيد بين مصر السادات والكيان الصهيوني. ثم إن الظواهري لا يستطيع أن يفسر للناس لماذا اعتبر أن سورية هي قلب العالم الإسلامي الذي يجب استهدافه بينما جاء بعشرات آلاف الإرهابيين من جزيرة العرب والأردن دون أن يستهدف الأنظمة الموالية لأميركا والمتصالحة والمتعاملة مع إسرائيل فيهما.
إن مدى التورط في خدمة القوى المعادية تؤكده طبيعة السلاح الذي جرى تأمينه للجماعات الإرهابية من قبل الدول المشغلة لها, وهي جميعاً تعمل في خدمة أمريكا مثلما تعمل في خدمة إسرائيل, كما أن العلاقة بين هذه التنظيمات وبين إسرائيل تكشفت للعالم كله ولا أحد يمكنه نفي وجودها, مما يعني أن استهداف قلب الوطن العربي من قبل “المفسدين” إنما غايته تمكين إسرائيل وليس إقامة الخلافة الإسلامية التي تحرر بيت المقدس، وحين يُسأل هؤلاء الأشخاص الذين انخرطوا في هذه الجريمة التاريخية الكبرى التي تستهدف العرب والمسلمين في الآخرة عمّا فعلوه، فلعل الجواب الوحيد الذي يملكون قوله [ربّنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا, ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً] (الأحزاب 67و 68).