براءة مهدورة على رصيف الفقر “أطفال الشوارع” يتكاثرون.. والشؤون الاجتماعية بصدد معالجة ظاهرة التشرد
بين دوافع النزوح واليتم والفقر تتعدد ألقاب أطفال العراء بين “أطفال الشوارع” و”متسولي الحرب” و”ضحايا الأزمة”، كما تختلف نظرات العامة إليهم، فمنهم من يراهم ضحايا الفقر، لا حول لهم ولا قوة، ومنهم من يستحقرهم، ويلعن مشغلهم الذي يستغل براءتهم، ومنهم من يمر مرور الكرام من أمامهم، وكأنهم ليسوا موجودين.
بغض النظر عن تعدد الدوافع، إلا أن قسوة واقع الحال تجعل الطريق إلى الشارع واحداً، وشوارع اللاذقية، كما شوارع بقية المحافظات الآمنة التي نزل الأطفال إليها حاملين أحلامهم الصغيرة بين ضلوعهم المرتجفة ليواجهوا أقدارهم الكبيرة بحثاً عن الحياة المشتهاة، فمنذ الصباح تبدأ رحلة مطاردة الرزق حتى يحل المساء، ويسكت صخب المدينة، وتعمر المنازل بسكانها، يظل هؤلاء الأطفال في الشوارع، فلا منزل يعودون إليه، ولا أهل ينتظرونهم خلف الباب، فيفترشون الحدائق والساحات وعلى الأرصفة، أما في الشتاء فيختبئون تحت أكياس من النايلون، أو في مداخل الأبنية درءاً من البرد والمطر، ويحرصون في كل ليلة أن يشعلوا في أحلامهم عود الثقاب، ويعيشون في واقع آخر.. في تفاصيل حياة تكون على مقاس أمنياتهم الصغيرة، فينعمون بالسعادة التي لا تكاد تغمر قلبهم الصغير حتى ينطفئ عود الثقاب في الصباح إيذاناً بيوم جديد، وهمّ جديد.
آلام كبيرة وأحلام صغيرة
من دون عناء البحث والسؤال، سرعان ما تجد عيون المارة في شوارع اللاذقية سبيلها إلى الأطفال الذين ينتشرون عند مفترقات الطرق، وعند إشارات المرور، منهم من يبيع الورود، ومنهم من يبيع العلكة، ومنهم من يمد يده للناس ليطلب من مال الله.
عمر عجينة، طفل في الثامنة من عمره، يبيع العلكة في دوار الزراعة، قبل أن يتحدث لسانه، سردت نظرات الحزن التي في عيونه قصة ألف ليلة وليلة من الجوع والحرمان والبؤس، لكن عندما تكلم عمر كانت عزة النفس والكبرياء أكثر وقعاً في النفس من حزنه العميق، إذ قال: “أنا من ادلب، ماتوا أهلي بقذيفة وقعت فوق بيتنا، وما عاد إلي حدا بهدنيا، وأجيت مع جيراننا إلى اللاذقية، مضيفاً: عم بيع العلكة مشان ما اعتاز حدا.. ما بدي حدا يشفق عليّ ويعطيني مصاري من غير ما يشتري مني”.
وعن أحلامه التي لم يعد يملك غيرها، يضيف عمر: “بدي ضل اشتغل وادرس واكبر وصير ضابط بالجيش حتى حارب الإرهاب إلي حرمني أبي وأمي، وبدي كمان ارجع لادلب وعمّر بيتنا إلي تهدم”.
وعن المكان الذي يعيش فيه، أوضح عمر أن الشارع هو بيته ومصدر رزقه، وليس له مأوى آخر، حيث يستيقظ عند الساعة السادسة صباحاً، ويأوي إلى النوم عند الساعة التاسعة أو العاشرة ليلاً على الرصيف بجانب الدوار.
نعمة خليل “6 سنوات”، عندما سألناها عن أهلها، امتنعت في البداية عن الإجابة، لكن عندما اشترينا منها وردة، تشجعت وأخبرتنا أنها تعيش مع والديها وأخويها اللذين يبيعان العلكة، فيما الأب يبيع الخبز، وعند سؤالنا لماذا لم تذهبي إلى المدرسة، أجابت بكلمات أكبر من عمرها بكثير: “العلم ما بيطعمي خبز”، ونحن فقراء بحاجة إلى العمل لنكسب المال.
وليس كل الأطفال يتقنون التسوّل أو البيع، فهناك أطفال مازالوا يشعرون بالصدمة لهول ما شاهدت أعينهم.. الطفلان الشقيقان زين 13 عاماً ونتالي 10 أعوام، لا يملكان عائلة تأويهما كبقية الأطفال بعدما مات أبواهما، وتخلّت عنهما زوجة جدهما بعد وفاته قبل أشهر عدة، ولذلك تراهما ينامان بالقرب من مقص جبلة في غرفة خشبية صغيرة دون باب لا يقيهما حر الصيف، ولا برد الشتاء.
زين كبرت فيه المسؤولية قبل السنين، حيث يقول:” بحس حالي مسؤول عن نتالي.. لازم احميها ودافع عنها وما خليها تحتاج لحدا بس ما بعرف شو بدي ساوي، وما بعرف لايمتا بدنا نضل بالشارع، العالم تشحدنا الأكل بدون ما يكون إلنا مثل كل الأولاد مكان نعيش فيه”.
إجراءات إسعافية للجم التشرد
قد تتطلب الموضوعية الالتفات إلى أن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل تعمل بصمت بعيداً عن الإبهار، وقد حققت تقدماً في ملف إيواء الأطفال المشردين، ويقول مدير الشؤون الاجتماعية والعمل في اللاذقية بشار دندش: اتخذت ظاهرة التسول بعد الحرب الإرهابية التي تشهدها سورية منذ سبع سنوات طابعاً جديداً أكثر تكثيفاً وفجاجة، حيث يمتهن معظم الأطفال التسول كحرفة لكسب الرزق، وليس كحاجة لسد الرمق، فيحتار الكثيرون بما يجب عليهم فعله حيال عشرات الأطفال الذين يتسولون المال، أو يحرجون المار في الشارع بكثرة الرجاء ليشتري ما يبيعون.
ويضيف: تبرز خطورة ظاهرة التسول بانتشارها بين الأطفال بشكل رئيسي، واستثمارهم من قبل عائلاتهم، أو من قبل جهات أخرى للحصول على المال، بدلاً من تواجدهم في صفوفهم الدراسية وداخل مدارسهم.
ويؤكد دندش بأنه سيتم افتتاح دار لرعاية الأطفال المشردين بالمحافظة خلال شهر نيسان بهدف استيعاب أكبر عدد ممكن من الأطفال لرعايتهم وإعادة تأهيلهم، وذلك بعد أن تم الاتفاق بين جمعية أسرة الإخاء ومنظمة “اليونيسيف” برعاية الشؤون الاجتماعية.
كما بيّن دندش أن هذه الدار ليست سوى حل مؤقت وإسعافي لظاهرة الأطفال المشردين، حيث لا تتجاوز مدة العقد الذي سيعمل به مع المنظمة أكثر من عام واحد، آملاً أن يتم خلال هذا العام إيجاد حل دائم لمشكلة المشردين والمتسولين.
ولفت دندش إلى أنه لا توجد في المحافظة سوى دار واحدة لكفالة الأيتام لا تستقبل الأطفال المشردين، لأن اليتيم، بحسب النظام الداخلي للدار، هو من ليس له أب أو أم، ولكن لديه بالضرورة قريب يكفله ويتعهد باصطحابه خلال أيام الأعياد وفترة الصيف، واستلامه بشكل قانوني عند إتمامه سن الثالثة عشرة، وعليه فإنه لا يمكن للدار استقبال الأطفال المشردين لأنهم مجهولو النسب ليس لديهم أهل أو مأوى، وغالباً هم يقومون بالتسول، والعمل ببيع البسكويت والعلكة، أو مسح السيارات في إطار مجموعة يتزعمها رجل أشبه برئيس عصابة يقوم بتشغيل الأطفال نظراً لسهولة استغلالهم، وقدرتهم على إثارة الشفقة في قلوب الناس.
دندش الذي شدد على أنه من غير المقبول أن يتم الخلط بين الأيتام والمشردين لأن ذلك يخالف الشروط القانونية بدور الرعاية، أكد أن المجتمع اليوم يواجه ظاهرة جديدة، وهي أطفال فاقدو الرعاية الوالدية من المهجّرين الوافدين إلى المحافظة.
وعن الإجراءات التي اتخذتها المديرية لإيواء الأطفال المشردين، يقول دندش: في ظل توجيهات وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ريما القادري تم إشغال غرفة ضمن دار الأيتام، حيث تم إيواء الأطفال المشردين والمتسولين، مشيراً إلى حالات حضر فيها ذوو بعض الأطفال لأخذهم من الدار، وذلك عن طريق النائب العام، وبعد إبراز ثبوتيات تدل على النسب، والتعهد خطياً بعدم السماح بعودة الأطفال إلى الشارع.
كما أشار إلى أنهم يقومون بالتواصل مع جمعية قرى الأطفال السوريين “sos”، وخاصة في طرطوس التي استقبلت نسبة لابأس بها من الأطفال المشردين، حيث تقوم بتأمين المأوى لهم ضمن قراها، وإعادة تأهيلهم نفسياً، موضحاً أنهم حالياً بصدد إقامة دار رعاية لاحقة بدار كفالة الأيتام، حيث يتم استقطاب الأطفال بعد سن الثالثة عشرة لإعادة تأهيلهم مرة أخرى لضمان عدم عودتهم إلى الشوارع، حيث يتم تقديم الرعاية الكاملة لهم من تعليم، وصحة، وإيواء، وذلك بهدف مساعدتهم في بناء مستقبلهم، وتأمين فرص العمل لهم ليكونوا أشخاصاً إيجابيين وفاعلين في المجتمع.
ويؤكد دندش أن حل ظاهرة التسول والتشرد بحاجة إلى تضافر جهود كافة المؤسسات والجمعيات الأهلية، فمديرية الشؤون الاجتماعية بمفردها ليست قادرة على احتواء هذه الظاهرة، وإنما هي بحاجة إلى مساعدة قيادة الشرطة لتخصيص عناصر من الشرطة يرافقون موظفي الشؤون الاجتماعية أثناء عمليات جمع الأطفال المشردين، بالإضافة إلى مساعدة وزارة التربية لإيواء الأطفال في المدارس.
وبهذا الصدد أشار دندش إلى إقرار المشروع الذي تقدمت به وزارة الشؤون القاضي بمنح موظفين من مديريات الشؤون في جميع المحافظات صفة الضابطة العدلية لتسهيل مهمتهم في جمع الأطفال المشردين من الشوارع، ونقلهم إلى مراكز الإيواء.
وحول المبادرات التي تقوم بها بعض الجمعيات والفرق من المجتمع الأهلي للمساعدة في إعادة تأهيل الأطفال المشردين، نوّه دندش بأهمية هذه المبادرات الإنسانية، لكنه أكد في الوقت ذاته أنها تقدم دعماً مؤقتاً لا يحل المشكلة، فهي تقدم لهم الثياب، ومستلزمات آنية، لكنها لا تقدم لهم المأوى الذي هم بأمس الحاجة إليه.
باسل يوسف