في الطريق إلى تقويض الأحادية القطبية
بالتأكيد فإن مجرد مقتل عميل مزدوج لم يكن ليتفجّر كل هذا القدر من الحقد والوضاعة، ولم يكن ليتحوّل إطلاقاً، وبمثل هذه السيناريوهات الساذجة والمكشوفة، إلى أزمة تكاد تهدد بالعودة إلى مناخات الحرب الباردة. ولكنها عوامل متباعدة تضافرت، مرة أخرى، لكي تضع بريطانيا في موقع “الذيل” الذي لا يهتز إلا عندما تكون الحاجة إلى النباح قد بلغت أقصى حدودها وذراها، وهو ما يصبح طبيعياً عندما تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها عاجزة عن القيام بأعباء القيادة، وعندما يغدو حلفاؤها مشاريع أيتام على مسرح السياسة العالمية.
ولنعترف، حقيقة، بأن العالم يتغيّر جدياً، وفي هذه اللحظة بالذات، وأننا على أبواب تحوّلات تاريخية ليس من شأنها وحسب أن تعيد رسم التوازنات داخل القارة الأوروبية، أو ضمن المعسكر الغربي، بل وتضع كل هذا الغرب المتوحّش مباشرة أمام ضرورة الاعتراف بانهيار مركزيته، وفي مواجهة الصعود المتسارع لشرق مترامي الأطراف يمتد من بحر الصين ليصل إلى الضفاف الشرقية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط؛ وهو شرق قد لا يعكس ثقافة أو لغة أو ديانة أو فضاءً اقتصادياً واحداً، ولكن المؤكّد أنه ينطوي على قيم وتطلعات مشتركة، وتشحنه رؤى ومقدّمات سياسية تتلاقى في الكثير من عناصرها، ولعل أبرز هذه العناصر رفض الهيمنة والتطلّع إلى المستقبل.
لماذا كل هذا الكم من الذعر المفتعل؟ ومن أين كل هذا الاستعجال للتضامن إن لم تكن ردة الفعل – المشبوهة والمبالغ فيها – تغرف من الشعور المقلق للدول -“الدولة؟!” – العميقة بالعجز وتراجع القدرة على التحكّم بمجريات الأحداث، إن لم يكن التأثير فيها: في أوكرانيا والقرم وسورية والانتخابات الروسية، وفي المنظمات الدولية، وحتى على السيطرة الكاملة، وإلى النهاية، على الاستحقاقات الانتخابية الداخلية، في أوروبا وأمريكا!.
حثالة لم تتردد في إيقاد حملات العداء والكراهية والتأثيم والتجريم ضد روسيا وحلفائها، وتمني الأمل بما هو أسوأ من عودة الحرب الباردة، أو بناء الستار الحديدي مجدّداً، بل ولا تزال تحلم بالسيطرة على روسيا، مخاطرة بكوابيس حرب عالمية ثالثة بات الحديث عنها اليوم أقل من مألوف ومبتذل في الصحافة الغربية؛ حفنة كلها ملء الثقة أن رجوع بولتون وماتيس وبومبيو إنما هو شارة “الرب” الامبريالي المنتظرة، والتي سرعان ما تلقفها ماي وماكرون وميركل لإنجاز الاستدارة المتوقّعة حتماً، وبالطبع.. المطلوبة؛ ولا همَّ أن تتحوّل الدبلوماسية إلى استعراض شوارع للقباحة والشتيمة، ولا همَّ أن تقوم الدعاية الرخيصة والكاذبة مقام الأدلة والحقائق الجنائية والدامغة، ولا همَّ في التهريج السياسي الفاضح ولا في الدناءة الشخصية والأخلاقية.. المهم هو استعارة أية قماشة بوسعها التغطية على نفاق وخداع السياسة الغربية مستميتة لعرقلة أي تقدّم روسي أو صيني على طريق تقويض نظام الأحادية القطبية.
من الغوطة الشرقية والفبركات الفاشلة عن الكيماوي، وعرقلة المساعدات الإنسانية، إلى تسميم سكريبال في سالزبيري على مقعد في حديقة عامة؛ ومن التهويل المدروس في مجلس الأمن الدولي، إلى التهويش المبرمج في مجلس حقوق الإنسان ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، التي باتت منابر مفتوحة لليمينيين والشعبويين والمتطرّفين والمتعصبين قومياً ودينياً، ومن البيت الأبيض حيث يتخبّط رئيس في معمعان من الفضائح السياسية والأخلاقية والشخصية، إلى قادة أوروبيين بات القاسم المشترك فيما بينهم أنهم يحكمون وسط اقتصادات مأزومة وبأغلبيات هشة ومتحوّلة مهدّدة، في كل لحظة، باحتمالات الفشل.. كل ذلك يشرّع الأبواب للاعتراف بواقع الاستعصاءات البنيوية التي لن تترك المجال لترف الجلوس على الجدار بانتظار نهاية المواجهة. إنها عادة أجواء ما قبل الحرب، وهو عادة زمن المنعطفات المصيرية والحاسمة، وغير القابلة للرجعة.
بسام هاشم