الإنسان من الذات إلى المجتمع والحياة..
الإنسان عماد الحياة وهو الكائن الوحيد الذي تقع عليه مسؤولية بناء المجتمع وإدارة الحياة، وبما أنه كائن اجتماعي بالطبع والفطرة فلا يمكنه أن يحيا إلا في ظل مجتمع يحيط به وبيئة اجتماعية ترفده بما لديها من إمكانيات، وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان معرضاً للتعرف والاختلاط بأنماط متعددة من العلاقات التي تتراوح بين مد وجزر، استقرار واضطراب، هدوء وفوضى، فيأتي هذا التذبذب نتاج عملية طبيعية تكون حافزاً له على الاستمرار في المضي برسالته، وانطلاقاً من أهمية هذا الموضوع الذي يرتبط بكل فرد في المجتمع يأتي كتاب “الإنسان من الذات إلى المجتمع والحياة” للدكتور “محمد نظام” الصادر عن منشورات وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، ليسلط الضوء بفصوله الثمانية على المنطلق والأساس من حيث الإدارة وتطوير الذات من جهة، وعلى الهدف والمسار من حيث بناء المجتمع وإدارة الحياة من جهة ثانية، وليعطي للقارئ طاقة إيجابية تجعل نظرته للحياة جديدة وتساعده في اكتشاف مافيها من جواهر، ينفرد الفصل الأول للتحدث عن أهم وأول خطوة لاكتشاف النفس وهي “تطوير الذات” حيث تتمثل في التعرف على النفس ومكنوناتها وهويتها الإنسانية ويكون ذلك من خلال اكتشاف الطاقات والاستعدادات التي خلقها الله فينا والعمل على تطويرها وتسخيرها بكفاءة وفاعلية للوصول للهدف المنشود، ويرى الكاتب أن في الحياة عموماً طريقين أحدهما طريق مطروقة موصلة إلى الحياة العادية، والأخرى هي الطريق الموصلة إلى حياة النجاح والارتقاء، ويتابع الكاتب “إن طيف الاختلافات في كل من هاتين الغايتين يشبه في تنوعه تنوع المواهب والشخصيات عند البشر، لكن الفرق بين هاتين الغايتين يشبه الفرق بين الظلمة والنور، إن الطريق المؤدية إلى الحياة العادية تقيد الإمكانات الإنسانية، أما الطريق المؤدية إلى السمو والارتقاء فهي تحررها وتطلقها من عقالها، وبتعبير آخر هي عملية متواصلة من النمو المستمر الذي يبدأ من داخل الإنسان ويتجه إلى الخارج في حركة تصاعدية”.
حقيقة التفوق
الفصل الثاني يتحدث عن مفاتيح الحياة الناجحة فأفراد المجتمع كلهم يشتركون في رغبة التميز وطموح التفوق والنجاح في الحياة، إلا أنهم قد يختلفون في حقيقة التفوق الذي يرغبون فيه ويتباينون في جوهر النجاح الذي يطمحون إليه ويرى الكاتب أن النجاح الحقيقي والفعلي بمكن أن يعبر عنه بأنه تلك المهارات والمقدرات في تحقيق ما نرجو من طموحات وغايات وتطويرها، وأما الفشل فهو في حرمان النفس من كل هذه العطاءات، ومن بعض هذه المفاتيح الإيمان بالله، الأخلاق الفاضلة، التعامل الإيجابي مع الناس والحياة، العقل الباطن، فن إدارة الوقت، الصحة والحيوية.
الفصل الثالث خُصص للوقت الذي اعتبره الكاتب رأسمال الحياة، فالزمن لا ينتظر المتوانين والضعفاء، لأن المتنافسين كثر وكلهم ينشدون التفوق والنجاح، فمن لا يبذل طاقته بإدارة ناجحة سيفقد موقعه باستمرار، فالإنسان مسؤول عن الزمن وأهميته في الحياة، وغير مسموح أن يعبث بإتلافه وإضاعته، ومن شأن إدراك أهمية إدارة الوقت أن يشعر الإنسان بالتحسن والتقدم في كل مجالات الحياة.
وبما أن القراءة هي نعمة وقيمة عالية تجعل الإنسان يطل من خلالها على عوالم كثيرة لتزيده معرفة وعلماً واطلاعاً، وتحلق به في رحلة الحياة كما جاء في الفصل الرابع من الكتاب، فالقراءة هي مفتاح الحضارة وليست مجرد هواية يمارسها الإنسان، إنها مظهر من مظاهر الحياة الجوهرية ومدخل للحضارة البشرية، فالإنسان الذي حُرم أو حرم نفسه القراءة فقد حُرم شيئاً عظيماً، إذ أوصد في وجهه باباً كبيراً من أبواب الحياة وهو باب العلم والمعرفة، فالإنسان الذي يعرف القراءة لكنه يعزف عنها، هو كمن أعطي مفتاحاً لكنز من كنوز الدنيا فتخلى وأعرض عنه طوعاً.
تكامل الإنسانية
أما الفصل الخامس كان عنوانه التواصل والحوار مع الآخر، حيث أكد الكاتب على أن الإنسان اجتماعي بالفطرة ولا يستطيع الاستغناء عن أبناء جنسه فهو بحاجة للآخرين كما أن الآخرين بحاجة إليه أيضاً وبالألفة والتعارف والصداقة والتعاون وتبادل الأفكار والمنافع تتكامل إنسانية الإنسان وجهوده وحاجاته النفسية والمادية والفكرية، فالإنسان الاجتماعي المنفتح الذي يكوّن علاقات إنسانية مع الآخرين هو إنسان يملك الثقة بنفسه ويشعر بالسعادة والارتياح في علاقات الصداقة السليمة عندما يمنح الآخرين حبه وثقته وإخلاصه، ويورد الكاتب سبلاً عدة في كسب ثقة ومحبة الآخرين منها الصدق، الحلم وكظم الغيظ، الكلام الطيب، التواضع، الإيثار، النصيحة، الابتعاد عن الجدل العقيم، الاعتراف بالخطأ والمرونة مع الغير، وخدمة الناس.
الفصل السادس جاء عن العطاء وخدمة الناس والتي يراها الكاتب متمثلة في العمل التطوعي الذي يعتبر فعلاً اختيارياً إرادياً يقوم به الإنسان برغبة ودون انتظار أجر مادي، ويصنف الكاتب دوافع العمل التطوعي إلى دوافع نبيلة يكمن في جوهرها مساعدة الآخرين وحب عمل الخير وتقديم المساعدة للفئات المحتاجة، ودوافع غير نبيلة لا تحمل بذور الخير في صلبها كالرغبة في الشهرة والسمعة الحسنة وحب الظهور والإحساس بالأهمية وتحقيق مكاسب ومنافع شخصية.
وجاء عنوان الفصل السابع “الشباب مدى الحياة” والمقصد منه الاهتمام بالصحة والأخذ بأسباب الحيطة والحذر فالشيخوخة وما يرافقها من أعراض تقف أحياناً كعائق في تقدم وتطور حياة الإنسان، ونوه د. نظام إلى عدة نقاط ليعيش الإنسان بروح الشباب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً منها: أن التقدم في السن بحد ذاته لا يعد سبباً أو عاملاً في الاضطرابات الجسدية والعقلية، بل الخوف من آثار تقدم العمر ربما يكون سبباً رئيساً في الشيخوخة المبكرة ومضاعفاتها، التقدم في السن في جوهره عملية تغيير وخطوة جديدة إلى الأمام في طريق الحياة الذي لا نهاية له، فالإنسان يملك قوى تفوق قواه الجسدية وحواس مذهلة تفوق حواسه الخمس، مؤكداً نقطة مهمة بأنه على المرء ألا يفوّت على نفسه أي فرصة بمجرد الظن أنها لا تناسب سنه، فهذا الشعور سيؤدي أكثر فأكثر إلى التبلّد والجمود والموت الفعلي، إضافة إلى الكثير من النقاط التي ركز عليها الباحث والتي بها يُغني سلوك وفكر الإنسان نحو تطوير أفضل للذات البشرية.
أما الفصل الثامن فأفرده الكاتب للتعريف عن آفات العصر والتربية الوقائية منها، فكان واضحاً حرصه على صحة وسلامة المجتمع، والتأكيد على أهمية العمل على حمايته من الانزلاق في حمأة الضياع والهلاك، ووقايته من أخطار الآفات الاجتماعية والسلوكيات المنحرفة التي تقف حجر عثرةٍ في طريق تطوره، كالإدمان على المخدرات أو انتشار بعض الأوبئة الفتاكة، كوباء الإيدز، والتي لا تنحصر عواقبها ومضاعفاتها في الإنسان كفرد وحسب، بل تتمدد طولاً وعرضاً لتصل إلى تفكيك الأسرة وانهيار المجتمع بالكامل، وما يعنيه ذلك في نهاية المطاف من انحراف الإنسانية عن الفطرة التي خُلق الناس عليها.
علا أحمد