(يوم السبت).. بعد عالمي وسباحة عكس التيار
أن تكتب لنشر المعرفة وإسماع رأي أو حقيقة خفت صوتها من مرارات الحياة، جرأة عند البعض وواجب عند آخرين، بهذه الكلمات يمكن أن نلخص أيّ جدال يدور حول أعمال الكاتب الإنكليزي ذائع الصيت إيان ماك إِوان.
ومن الغريب الآن الاعتقاد بأن ماك إِوان كان يفتقر إلى الثقة بأنه روائي، فأوّل محاولتين له في كتابة عملين طويلين أظهرته وكأنه مقيّدٌ بقصصه القصيرة التي كتبها في السبعينيات والثمانينيات، ويحتاج إلى المساعدة حتى يتأهل ليصبح كاتب روايات قصيرة. لكن كل هذا قد تغيّر منذ روايته (أمستردام) التي فازت بجائزة “بوكر” العريقة عام 1998 لتليها روايته الشهيرة (الكفارة) عام 2001 الأكثر مبيعاً وقتها، يتناول فيها عدة محاور ذات أهمية مرتبطة بجوهر ومفهوم الحياة، ويطرح أسئلة يجيب عنها من دروس وتجارب الحياة القاسية، منها هل يحق للفرد أن يحكم على الآخرين استناداً إلى رؤيته الخاصة بالحياة؟ وكيف تفهم البراءة من قبل الفرد والمجتمع؟ وما هو تأثير الفوارق الطبقية في العدالة؟
ويعتبر ماك إِوان واحداً من الكتاب المشاكسين الذين يتناولون في أعمالهم العديد من المفاهيم والتقاليد والأفكار السائدة، لتكون موضع بحث وتساؤل وتحليل. وهو أحد الروائيين القلائل الذين يتشبهون بالأديب الكبير شكسبير لغويّاً، إضافة إلى مارغريت أتوود وتوني موريسون.
ما فعله في عمله الأخير “Saturday/يوم السبت” يشبه إلى حدّ ما أسلوبه في رواية “أمستردام”، دراسة سرديّة للحياة الداخلية للطبقات المتوسطة المعاصرة، لكنّه يبتعد كثيراً عن أسلوبه في روايته “الكفارة” والتي تمتدّ أحداثها لقرن من الزمن، ليحصر أحداث روايته الجديدة بأربع وعشرين ساعة من يوم عطلة هنري بيرون، جراح الأعصاب اللندني الشهير.
تضمنت النسخة الأخيرة من مجلّة “غرانتا” البريطانيّة الأدبيّة الأشهر مقتطفات من “يوم السبت” عندما خرج بيرون من أكسفورد في الصباح متوجهاً لزيارة أمّه، ويظن قارئ المقال أن الرواية تبدأ بهذا الحدث، ليكتشف عند قراءة الرواية أن ذكر الزيارة وقع في الصفحة 152 (منتصف العمل تقريباً)، إنه مقياس لمستوى الأحداث في يوم هنري، فقبل وصوله بسيارته المرسيدس إلى الطريق الرئيس، كان قد عايش هجوماً إرهابياً محتملاً وناقش حرب العراق مع ابنه وعاشر زوجته وخسر لعبة السكواش واشترى السمك للعشاء.
يقدم الكاتب كلماته من خلال عيون وعقلية شخصيته الرئيسة ليصف مواضيعها وصورها وتقلباتها ومخاوفها. “هنري بيرون لديه كل شيء…”. وتحكي الرواية الأحداث التي جرت مع هنري يوم السبت 15 شباط 2003. عندما يحاول الجراح العصبي أن يشتري بعض اللوازم ويتجمع مئات الآلاف من المتظاهرين في لندن للاحتجاج على دعم توني بلير للهجوم الأمريكي على العراق. فتستكشف الرواية إلى أي مدى يمكننا عزل أنفسنا عن المخاوف العالميّة رغم كلّ الأمان والحياة المريحة التي يمكن أن يعيشها جراح عصبي. معظم القصص التي أثارتها سياسات ما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، اتخذت مواقف واضحة مثل الناطق باسم الحزب. ولكن “يوم السبت” يعتبر تحذيراً ضدّ أي تدخل أو ضدّ الانعزالية. هل السياسة الخارجية لحكومة بلده تعرّضه للخطر أم ثراءه!؟ وكما هو الحال في أفضل الروايات السياسية، يتم توزيع الأدلة والحجج بغموض دقيق.
بيرون، على الرغم من كونه نموذجاً للطبقات المتوسطة العليا المتحضرة، لا يؤمن بالأدب. لم يعد لديه وقت للقراءة، بل أصبح مرتبكاً عندما كانت ابنته ديزي على وشك نشر أول قصائدها. لا يستطيع الجراح تحديداً رؤية الروايات التي تخبرك عن حياة شخص ما بتفصيل كبير. من المؤكد أنه من السهل ملاحظة هذه الأشياء ثم كتابتها. يعطي الكاتب بطله فرصة النصر في ملعب السكواش لكن يحطمه في كلّ سطر.
يتمثل الدافع وراء الرواية استكشاف وتمثيل وفهم تعقيد الحياة في العالم الحديث الموصوف بدقة. وينصب التركيز على هشاشة السلام والسعادة، وعلى مدى سهولة تحطيم الحياة وقضية الحب والزواج والأسرة والصداقة والمجتمع، من خلال تطور غير متوقع أو تحول في الظروف والخبرة. كما يمكن للقارئ المتمعن بالرواية أن يحسن مهاراته بالطبخ وبلعب السكواش وحتى بشراء بعض اللوازم البيتيّة، بالرغم من أنها ترسم شكلاً لحياة يومية. وتهدف هذه الفهرسة الداخلية (التركيز على تفاصيل حياتية شخصية) إلى التأكيد على الأمور الخارجيّة المحيطة بنا.
تتسم الرواية باللغة الطبية غير الجذابة أو الحيويّة على الرغم من الغنى الذي تعطيه الرواية بشكل عام لقارئها. وهي أيضاً من أكثر الروايات مبيعاً ولكنها الأخطر في أدب ما بعد الحادي عشر من أيلول، وأثبتت من وجهة نظر بطلها أن الخيال لا جدوى منه في العالم الحديث.
سامر الخيّر